من ثكنة عسكرية أنشأها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الثانية، إلى واحد من أكبر تجمعات الفلسطينيين في سوريا… هكذا بدأت حكاية مخيم النيرب في مدينة حلب، ثاني أكبر المخيمات الفلسطينية بعد مخيم اليرموك، مسيرة امتدت لأكثر من سبعة عقود، حاملاً في أزقته وبيوته ذاكرة موجعة لآلاف المهجّرين من عشرات القرى والمدن الفلسطينية عام 1948.
يقع المخيم قرب قرية النيرب شرقي حلب، وقد تحوّل تدريجيًا إلى مأوى لآلاف الفلسطينيين الذين اضطروا للفرار تحت النار، لينتقل المكان من معسكر بمهاجع بسيطة إلى منطقة مكتظة بالبيوت الطينية ثم الإسمنتية، في ظل تواضع الخدمات وبؤس الظروف المعيشية.
معسكر بلا حجر ولا كهرباء… هكذا بدأت الحكاية
يروي اللاجئ جمال الزهوري، أحد أبناء المخيم، لبوابة اللاجئين الفلسطينيين تفاصيل البدايات القاسية، ويقول: "تأسّس المخيم بعد لجوء أهلنا عام 1948، وكان عبارة عن معسكر فيه مهاجع، بلا حجر ولا عمران. العائلات كانت تتبادل البطانيات والأغطية، والشوارع بلا كهرباء، ولا مراحيض داخل البيوت، بل مراحيض عامة، ومن يريد استخدامها ليلًا عليه أن يقطع مئة متر في الظلام. أما الحمّامات فكانت عامة، ولا نستحمّ إلا يومًا واحدًا في الأسبوع".
ويضيف: "رغم أن الحياة اليوم تطورت، إلا أن الوضع المعيشي ما زال سيئًا. من يملك قريبًا في الخارج يعتمد على الحوالات المالية التي تساعده على عيش متوسط، أما 'أونروا' فكانت تقدم لنا دعمًا ماليًا وصحيًا، لكنها اليوم أوقفت معظم خدماتها، ولم يبقَ سوى دعم محدود للعمليات الجراحية".
رحلة النكبة… حفاة تحت النار
لاجئ آخر من المخيم يستعيد بدايات النزوح من فلسطين إلى النيرب، ويقول لموقعنا: "خرجنا من فلسطين حفاة، ولم نكن نتوقع أن تكون الهجرة دائمة. خرجنا تحت ضرب الأسلحة الصهيونية من بلدة حطّين إلى مدينة صور في لبنان. نمنا يومين على الأرض، وعندما وصلنا صور وجدنا القطارات بانتظارنا… كانت مؤامرة كبيرة لتهجيرنا".
ويتابع شهادته عن سنوات اللجوء الأولى: "نمنا على الأرض أيامًا طويلة بلا شيء. كانوا يعطوننا يومًا صحونًا، ويومًا ملاعق، ويومًا أغطية. الشباب فوق العشر سنوات كانوا يتعذبون أكثر من غيرهم، ينزلون مشيًا إلى حلب، ويعملون من الصباح إلى المساء بنصف ليرة أو ثلاثة أرباع أو ليرة".
ويصف بدايات السكن في المخيم قائلًا: "عشنا في بركسات، وحددنا المساحات بأكياس الخيش، لكل عائلة ثلاثة أمتار بثلاثة، وبيننا ممر عرضه متر. وبعد فترة بدأ الناس يبنون بالطوب، ويرفعون السقف إلى مترين، ثم يصنعون عريشة تحت النافذة لتكون مطبخًا وحمامًا. لم تكن هناك مطابخ ولا حمّامات داخل البيوت، وكانت الغرفة الواحدة تضم المطبخ والحمام وغرفة النوم والصالون معًا. عانينا الأمرّين".
ذاكرة من عكّا… لا تزال حيّة
أما أمينة محمود الخطيب، من مواليد القدس عام 1936، فتستعيد فلسطين قبل الرحيل، وتقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: "كنت أذهب مع أخي الصغير إلى بحر عكّا. نحمل طنجرة نصطاد بها السمك، ونعود لنقليه ونأكله ساخنًا. كان كل شيء جميلًا في عكّا، والله ما شاء الله".
وتتذكر بدايات تهجيرها قائلة: "خرجنا إلى صيدا في لبنان على أساس أن نبقى أسبوعين ونعود، لكن ما جرى بعدها غيّر كل شيء. جاءت السيارات ونقلونا بقطار كانوا يسمّونه قطار البقر، ومنه جاؤوا بنا إلى حلب. وها أنا اليوم ما زلت هنا، لم نعد إلى فلسطين، ولم يتحقق شيء مما وُعدنا به".
ويختصر مخيم النيرب تاريخًا طويلًا من الشقاء والإصرار؛ من بيوت الخيش والبركسات إلى مساكن الإسمنت المتواضعة، ومن المراحيض العامة إلى الأزقة الضيقة المكتظة بالأطفال والأحلام المؤجلة.
ورغم تغيّر الزمن، بقيت الحكايات الأولى — الخروج حفاة، قطارات التهجير، والأيام الأولى للنوم على الأرض — حيّة في ذاكرة أهالي المخيم، شاهدة على رحلة لجوء لم تنتهِ بعد.
شاهد/ي التقرير
