العراق - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
مقال: الوليد يحيى
لم تكن عبارة " فلسطينيو العراق" مألوفة ومتداولة في الحيّز الاعلامي الفلسطيني والعربي، قبل نكبتهم الثانية في عام 2003، فالفلسطينيون في العراق لطالما كانوا خارج التعريف الأممي للاجئين، ولم يُشملوا اعتباريّاً بصفة لاجئ مسجّل لدى وكالة " الأونروا".
ورغم تعهّد العراق بالإشراف الكامل على شؤون اللاجئين الفلسطينيين فيه، بعد أن رفض عمل وكالة "الأونروا" على أراضيه، الا أنّ ذلك لم يمنح اللاجئ "الفلسطيني العراقي" ميزة عن سواه من اللاجئين القاطنين في مناطق عمل " الأونروا" الخمس، وعلى عكس الشائع، فإنّ ذلك أضفى على لجوئه متاعب كثيرة، طوال العقود التي سبقت الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حتّى ساهمت في نكبته في عهد سلطة الميليشيات المذهبيّة كـ "منظمة بدر، وجيش المهدي" بعد الإحتلال، والتي كان أوّل ضحاياها اللاجئ الفلسطيني، الذي وجد نفسه مجّرداً من أي غطاء أممي، ينظر لحاله ويوفّر له حدّاً أدنى من الحماية.
يعود تاريخ اللجوء الفلسطيني الى العراق، إلى عام النكبة 1948، وكون العراق ليس من الدول الحدوديّة مع فلسطين، لم يجعله ذلك مقصداً مباشراً للمهجّرين الفلسطينيين عن ديارهم، الّا أنّه آوى نحو 3500 فلسطينيّ قدموا إليه على متن حافلات الجيش العراقي، الذي اصطحب معه فلسطينيين من قرى قضاء حيفا، أثناء تقهقره عن مشارفها، والتي كان قد وصلها ضمن تشكيلات "جيش الإنقاذ" العربي، الذي حارب في فلسطين سنة 1948.
من هنا بدأ اللجوء الفلسطيني في العراق، بـ3500 لاجئ في معسكرات الجيش العراقي في البصرة، ارتفع العدد الى 5 آلاف حتّى عام 1950 بعد أن تمكنت عائلات لاجئة من لم شمل أبنائها، ليتم نقلهم إلى بغداد ووضعهم في عهدة " مديريّة شؤون اللاجئين الفلسطينيين في العراق" التي أسستها وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل العراقية سنة 1950، لتقارب أعدادهم خلال العقود اللاحقة نحو 43 الف لاجئ فلسطيني مسجل لدى المديريّة حتى تاريخ احتلال العراق وسقوط الدولة في العام 2003.
هكذا تبدو مشهديّة اللجوء الفلسطيني الى العراق،غير متطابقة مع ماكانت عليه في حالات اللجوء الى سوريا ولبنان والأردن، ولا أوضاعهم القانونيّة كذلك، فمن حيث التعريف، لم يشملهم التعريف الأممي للاجئ الفلسطيني الذي صاغته وكالة " الأونروا" بأنّه الشخص الذي عاش في فلسطين بين حزيران 1946 و أيّار1948، وفقد بيته ومصدر رزقه نتيجة تهجيره بعد حرب 1948، وبناء عليه يُعتبر لاجئاً معترفاً به تقف الوكالة عند حاجيّاته المعيشيّة والقانونية في مناطق عملها، حتى إيجاد حلّ عادل لقضيته.
فالتعريف العراقي للاجئ الفلسطيني تعاطى مع الحالة كما لو أنّها وفوداً لا لجوءاً، وإن استخدم ذلك التعريف كلمة لاجئ، فإنّها في تفسيراته، أشارت إلى من وفدوا إلى العراق سنة 1948 وأقاموا فيه لغاية سنة 1950، وهنا بدأت إشكاليّة الوافدين بعد هذا التاريخ، وكذلك إشكاليّة عموم الوافدين في التعاطي القانوني معهم، من قبل مؤسسات الدولة العراقيّة وتشريعاتها المواطنية النافذة، والتي تنظم أمور العمل والتملّك والتدرج الوظيفي وسواها.
فقد عاش اللاجئون الفلسطينيون في العراق، التباساً في اعتباريّتهم القانونية، وعانوا من تبعات ذلك الالتباس كثيراً، فتقاذفت شؤونهم منذ سنة 1950 حتّى 2001، مزاجيّات المؤسسات الحكوميّة والسجالات القانونية التي طالما سبقت أي معاملة حكوميّة لهم، سواء التي تتعلّق بمسائل صغرى كامتلاك خط هاتف، أو تجديد رخصة سوق أو عمل، حتّى امتلاك سيارة أو منزل.
ورغم إنشاء تجمّعات سكنيّة لهم سنة 1993 في بغداد كتجمّع البلديات، المملوك للحكومة، إلّا أنّ ذلك خلق واقعاً يشبه "الغيتو" حيث لا حريّة للانتقال، أو تبديل السكن بآخر أوسع ييتماشى مع ازدياد عدد الأفراد، ونمو عدد الأسر نتيجة الزواج.
استمرت هذه الاشكاليّة، حتّى اتخذ "مجلس قيادة الثورة" في نظام صدّام حسين قراراً في العام 2001، يساوي بين الفلسطيني والعراقي، في كافة حقوق المواطنة بما فيها حقّ التملك والانتقال والتدرج الوظيفي الكامل، باستثناء الحق في الترشح والانتخاب للمناصب السياسية.
ومع دخول الإحتلال الأمريكي الى العراق، وسقوط النظام والدولة العراقيّة، تعاطى النظام "الدولتي" الجديد مع الفلسطينيين العراقيين، بوصفهم أجانب ورعايا دولة أخرى، لاغيّاً قرارات الدولة العراقيّة السابقة التي منحتهم صفة المقيمين الدائمين في البلاد، فبدأ التضييق عليهم عبر فرض إجراءات جديدة تتعلق بإقامتهم القانونية، بدأت في عهد حكومة ابراهيم الجعفري وتصاعدت في عهد نوري المالكي، فطولب اللاجئون الفلسطينيون حينها بتجديد إقاماتهم كلّ ثلاثة أشهر، وسط تعقيدات ومماطلات، أدّت في الكثير من الحالات لتوقيف واعتقال العشرات من الشبّان، بتهم الإقامة غير القانونية.
هذا التعاطي القانوني من قبل حكومات "العراق الجديد"، تكشّف لاحقاً أنّه مقدمّة لجملة من السياسات الممنهجة، للدفع بفلسطينيي العراق نحو المغادرة، ففي العام 2006 ، بدأت الأحداث الطائفية تعصف بالبلاد نتيجة سطوة القوى والميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران على الدولة في العراق، وافتتحت تلك الميليشيات أنشطتها بعمليات تطهير مذهبي وثقافي، استهلّته بحملة تعبئة ضد الفلسطينيين، بوصفهم "سنّة وأتباع للنظام السابق" وفق تعبيرات خطابها المُعلن عبر الإعلام.
وعلى مرأى من قوّات الاحتلال الأمريكي، جرت عدّة عمليات إقتحام لمجمّع البلديات في بغداد بشكل رئيسي، و للتجمعات الفلسطينية في البصرة ومناطق الجنوب، أدّت إلى تصفية العشرات من اللاجئين الفلسطينين واعتقال مئات آخرين، واستمرّت تلك العمليات على مدى أشهر حتّى اندفع آلاف الفلسطينيين بهجرة جماعيّة، إلى الحدود مع الأردن وسوريا، على أمل السماح لهم بدخولها هرباً من التهجير المباشر وغير المباشر الذي واجههم داخل العراق.
نُصبت في المناطق الصحراوية على الحدود مع الأردن وسوريا، نحو سبعة مخيّمات، أبرزها الرويشد، طريبيل والكرامة على الحدود مع الأردن، التنف والوليد، على الحدود مع سوريا، ضمّت بمجملها نحو 12 ألف لاجئ فلسطيني، مُنعوا من دخول الأراضي الأردنية والسوريّة، ووصف تقرير للأمم المتحدة أوضاعهم بالمزرية وغير المؤتمن جانبها، في ظل غياب لوكالة "الأونروا" المعنيّة بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، كونها لم تكن مسؤولة عنهم في بلد طرح نفسسه كموطن لجوء للفلسطينيين منذ نكبة عام 1948.
رُحّل معظم اللاجئين الفلسطينيين في العراق، إلى عدّة دول فتحت لهم أبواب اللجوء، أبرزها كندا ودول عديدة في أمريكا اللاتينيّة كتشيلي والبرازيل، بينما خاض المئات منهم الهجرة عبر البحر نحو أوروبا، ليبقى في العراق من أصل 43 ألف فلسطيني، فقط 4 آلاف يعيش بعضهم في مناطق شديدة التوتر.
وهكذا تبدو سيرة فلسطينيي العراق، لا تنطوي فقط على تقليديّات اللجوء ومعاناته، التي عرفناها في سيَر اللاجئين الفلسطينيين في عموم شتاتهم، فللاجئين في بلاد الرافدين حكاية متفرّدة، نكبة مهمّشة بفعل السياسة والمصالح والارتباطات الأيديولوجيّة، وغياب حضور المنظمّات الدوليّة المعنية بشؤون اللاجئين.