كشفت صحيفة "هآرتس" عن عزم الحكومة الإسرائيلية على مواصلة فرض تعتيم رسمي على أحد الملفات الرئيسية، المحفوظة في أرشيف الجيش، والخاص بـ"نشوء مشكلة اللاجئين" الفلسطينيين في عام 1948. وجاء في تقرير للمراسل، براك رافيد، أنه خلال جلسة للجنة وزارية خاصة بالمواد التاريخية والأرشيف، والتي تترأسها وزيرة العدل، أيليت شاكيد، أبدت وزارتا الخارجية والأمن موقفاً مناهضاً ومعارضاً بشدة لكشف ملف النكبة أمام الجمهور، بحجة الخوف من المس بأمن الدولة وسمعتها وعلاقاتها الخارجية.
وأوضح التقرير أن اللجنة الوزارية التأمت على أثر توجه جمعية "حقوق المواطن" الإسرائيلية للأرشيف الرسمي لجيش الاحتلال، بطلب فتح الملف السري المذكور وعرضه أمام الجمهور. ويتضح أن الحديث عن ملف يحمل الرقم 1975/922-681، وهو مودع في قسم التأريخ العسكري، ويشمل بحثاً علمياً كان رئيس الحكومة الأول، دافيد بن غوريون، قد طلب إعداده في ستينيات القرن الماضي، للادعاء بأنه في الحرب التي وقعت عام 1948، هرب نحو مليون فلسطيني من البلاد بمبادرتهم، ولم يتم طردهم من قبل الجيش الإسرائيلي.
التأريخ الإسرائيلي للنكبة محكوم بتزوير رسمي للتاريخ والتستر على المذابح الصهيونية
وبالفعل شارك عدد من المستشرقين الإسرائيليين بوضع البحث الذي طلبه بن غوريون. وكان قد كشف عنه للمرة الأولى المستشرق، شاي حزقاني، وحاول بن غوريون من وراء كتابة البحث المذكور صد الضغوط الأميركية على إسرائيل، مباشرةً بعد النكبة، لإعادة اللاجئين الفلسطينيين الذين تم طردهم من قبل العصابات الصهيونية المسلحة. وكان يأمل في إقناع المجتمع الدولي، من خلال دراسة أكاديمية، بأن الفلسطينيين خرجوا من بلادهم بمحض إرادتهم، وبالتالي فإن إسرائيل غير ملزمة بإعادتهم. وأراد أيضاً الرد على الموقف الفلسطيني والعربي، الذي أكد على حصول عملية التطهير العرقي في فلسطين.
وذكرت صحيفة "هآرتس" أن المراسلات الحكومية الداخلية بين بن غوريون والجهات الرسمية من جهة، وبين المستشرقين الإسرائيليين الذين شاركوا في وضع هذا البحث، أظهرت بوضوح للمستشرقين ما هي النتيجة المطلوب إثباتها في البحث الأكاديمي، أي القول إن العرب فروا بمبادرتهم وبتشجيع من الجيوش العربية. ونقلت عن موظف رسمي إسرائيلي أنه فقط بعد تحقيق السلام يكون بالإمكان كشف هذا الملف علناً.
ويشكل ما كشفته الصحيفة الإسرائيلية إثباتاً لكثير من الطروحات العربية والغربية، التي قالت بأن الاستشراق الإسرائيلي، والتأريخ الرسمي للمؤرخين الصهاينة لتاريخ النكبة وإنشاء إسرائيل، كان محكوماً بأجندات دولة الاحتلال، تم خلالها تزوير التاريخ والتستر على المذابح الصهيونية في فلسطين خلال حرب العام 1948.
ومع أن المؤرخين والساسة الفلسطينيين وضعوا مذكرات وأبحاثاً كثيرة حول تأريخ النكبة وما حدث فيها، مثل عيسى السفري (نكبة فلسطين)، وموسى العلمي (الفردوس المفقود)، إلى جانب كتب مشهورة أخرى ككتب المؤرخة، بيان نويهض الحوت، (القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين)، وروز ماري صايغ (الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة)، وعبد الوهاب الكيالي (تاريخ فلسطين الحديث)، ومذكرات أبو إياد (فلسطيني بلا هوية)، وهشام شرابي (الجمر والرماد)، (وصور من الماضي) وآخرين، إلا أن الرواية الإسرائيلية الرسمية لم تتصدع إلا في أواسط الثمانينيات مع ظهور تيار عرف بتيار المؤرخين الجدد، وكان ذلك تحت وطأة الانتفاضة الأولى.
وتحدى هذا التيار الرواية الإسرائيلية الرسمية. واشتهرت في هذا السياق مؤلفات مثل "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، للمؤرخ بيني موريس, الذي عاد وتنكر لمؤلفه في كتاب عنوانه "تصحيح خطأ"، وكتاب آفي شلايم بعنوان "مؤامرة على الأردن". وهناك كتاب سيمحا فلابين: "ولادة إسرائيل بين الحقيقة والأسطورة"، الذي أشار فيه المؤلف إلى أنه لم يعثر على وثيقة واحدة، أو تسجيل صوتي واحد يدعو فيه طرف فلسطيني أو عربي الفلسطينيين إلى الخروج من قراهم ومدنهم. واشتهر، في مرحلة متأخرة، كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لمؤلفه التقدمي، إيلان بابيه، الذي اضطر بعد نشره إلى ترك إسرائيل والهجرة للعيش في بريطانيا، لا سيما بعدما ألغت جامعة حيفا أطروحة ماجستير لتلميذه، تيدي كاتس، حول تورط لواء إسكندرونة في مجزرة الطنطورة.
تم إعداد أبحاث أكاديمية تدعي أن الفلسطينيين غادروا بإرادتهم
وكشفت صحيفة "هآرتس" عن أن بن غوريون طلب إعداد بحثين أكاديميين على الأقل حول ملف اللاجئين الفلسطينيين: الأول للمستشرق روني جباي، تحت ستار مؤسسة أطلق عليها في سنوات الستينيات معهد "هشلواح" الذي تطور لاحقاً إلى مركز "ديان" في جامعة تل أبيب. وأعد البحث المذكور بالاعتماد على وثائق من الأرشيف، بما فيها أرشيف الاستخبارات العامة. أما البحث الثاني فوضعه البروفيسور، موشيه معوز، الذي كان آنذاك يعمل موظفاً لدى مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية. وأصبح لاحقاً مختصاً بما يسمى تاريخ الأقليات في الشرق الأوسط. ووضع كتاباً خاصاً عن رئيس النظام السوري السابق، حافظ الأسد، تحت عنوان "الأسد عنقاء دمشق"، وصدر في عام 1988 بالتزامن مع كتاب باتريك سيل "الأسد والصراع على الشرق الأوسط". واعتمد معوز في مراجعه الأكاديمية على البحث الذي وضعه جباي.
وحاول المستشرق، حزقاني، الذي يعمل باحثاً في شؤون الشرق الأوسط في جامعة ميرلاند، الحصول على الملف المذكور من سلطات "الجيش الإسرائيلي"، إلا أن أرشيف الأخير رفض طلبه وأعلن أن الملف سيبقى سرياً. وبعد توجه جمعية "حقوق المواطن" بهذا الخصوص، أعلن أرشيف الجيش أن الأمر سيعرض على اللجنة الوزارية الخاصة. وتعقد هذه اللجنة جلساتها في حالات خاصة. وكانت آخر مرة عقدت فيها عام 2008، إذ صادقت على تمديد منع نشر ملفات وتقارير أرشيفية حول مجزرة دير ياسين.
ولفتت "هآرتس" إلى أن اللجنة الوزارية الخاصة بشؤون المواد الأرشيفية، والتي تترأسها اليوم الوزيرة شاكيد، وبمشاركة وزيرة الثقافة، ميريت ريجف، التي عملت في السابق في منصب الرقيب العسكري للجيش الإسرائيلي، عقدت جلسة بهذا الشأن، أخيراً. لكنها تعتزم تمديد إبقاء ملف النكبة مغلقاً، علماً بأنها لم تصدر قراراً رسمياً بهذا الصدد، بل طلبت الحصول على توضيحات من جهات مختلفة ذات صلة.
وبحسب الصحيفة، أقر باحثون بأن الملف لا يحتوي على تفاصيل مهمة لم تنشر في السابق في دراسات وأبحاث مختلفة. لكن على ضوء موقف وزارتي الخارجية والأمن، وادعائهما بأن نشر الملف يلحق ضرراً بالغاً بمكانة إسرائيل الدولية وعلاقاتها الخارجية، ويؤثر على نتائج المفاوضات المستقبلية في قضايا جوهرية مع الفلسطينيين، أعرب الوزراء الأعضاء في اللجنة، شاكيد وريجيف، ووزير الطاقة، يوفال شتاينتس، عن ميلهم إلى تمديد فترة فرض الكتمان والسرية على ملف النكبة. لكن لم يتم بعد تحديد مدة هذا التمديد.