الأردن - أسماء عوّاد
لم تخرج آليّة التعاطي مع أزمة القدس الأخيرة عن المعهود - وهي بالمناسبة ليست مفاجأة بالمعنى التقني - حيث لا زال الفلسطينيون والعرب يتعاملون مع القضية الفلسطينية بنظام القطعة الواحدة؛ لسنوات كان التركيز على ما يتصدّر مشهد القضيّة فقط، إن كان على شكل انتفاضة أو حرب على غزة أو إضراب للأسرى...الخ. وهذا أمر ينسحب أيضاً على ما بات يُعرف بصفقة القرن التي تم اختصارها إعلاميّاً "مع سبق الإصرار والترصد" بالقدس.
يكشف لنا الشحن الإعلامي العاطفي تجاه هذا الشق من التفاهم الخليجي – "الإسرائيلي"، على خديعة أكبر تفوق مسألة "العاصمة" من وجهة نظري، وأقصد تهميش بند حق العودة وكأنه بات موضة قديمة! أما المُنادون بأولويّة القدس على حق العودة فهم مُشاركون ومُتآمرون بالعبث في مصير ما يُقارب (6) مليون لاجئ فلسطيني في الشتات.
الحديث عن حق العودة أمام القدس، بعيد كل البعد عن ترف ثرثرة الصالونات السياسيّة، ولا يُراد منه التقليل من فجيعة المؤامرة على المدينة المُقدّسة. على العكس، فالمطلوب حالياً الدفع بكافة ملفاتنا للأمام، والاستفادة من الزخم الذي اكتسبته القضية الفلسطينية على مدار الأسابيع الماضية، وهذا يعني بالضرورة الانتباه لما يُحاك حول الشاهد الأممي على جريمة الاحتلال وأقصد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا".
حساسية الأونروا
تصريحات "إسرائيلية" عديدة حول وكالة الغوث التي يُدرك العدو أهميّتها القانونية، كان آخرها لنتنياهو مُعقّباً على نية ترامب تقليص دعم الولايات المتحدة لـ "الأونروا"، حين قال في افتتاح جلسة حكومته يوم الأحد 7 كانون الثاني 2018 أنّ "الأونروا تُخلّد مشكلة الفلسطينيين، والتي يجب أن تنتهي من العالم". من هنا بالتحديد تكمُن حساسيّة وجود "الأونروا"، فأنا لا يعنيني من الذي صرّح حولها بقدر ما يهمني أنّ هذا الخيار التصفوي لحق العودة من خلال استهداف وكالة الغوث تم تداوله ونقاشه وحتى تبنّيه، وصولاً للضغط على حلفاء "إسرائيل" لتنفيذه. إذن، المسألة تجاوزت المساعدات التي تُقدمها وكالة الغوث للمُسجلين لديها، وما تقليص الدعم للمُستفيدين إلا نتيجة مباشرة لتراجع دور الدول المانحة وانخفاض التبرعات للوكالة التي تعمل في "الأردن، سوريا، لبنان، الضفة المحتلة، قطاع غزة" منذ ما يُقارب سبعين عاماً.
بالمقابل، مناورات "الأونروا" من أجل الاستمرار في العمل، لا يمكن اعتبارها حُسن نيّة صرفة، أو احترام للاجئين وحقوقهم بقدر ما هي محاولات من إدارة الوكالة للحفاظ على الوظائف والامتيازات، وقد يبدو هذا المنطق في سرد الوقائع مفهوماً أكثر لتفسير الضغوطات المُستمرة من الإدارة على الموظفين لتفريغ عمل "الأونروا" من سياقه السياسي، والذي تجلّى أخيراً في تطبيق "مبدأ الحيادية"، والعقوبات التي تعرّض لها الموظفون غير المُنصاعين، فكل ذلك في سبيل إرضاء الجهات المانحة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية المُموّل الأكبر للوكالة.
بحسب تقرير 2013 المنشور على موقع "الأونروا" الإلكتروني فإنّ مقدار الدعم الذي قدّمته واشنطن لـ "الأونروا" في ذات العام يُشكّل (23) بالمائة من البرنامج الأساسي و(26) بالمائة من الموازنة غير الدوريّة (يدخل ضمنها مساعدات لغزة بعد الحرب ومساعدات للاجئين الفلسطينيين من سوريا). لكن لا تقارير ماليّة جديدة للعامة يُمكن الحصول عليها من الوكالة، وفي مَعرِض مقابلة مع أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات في بداية العام قال إنّ حجم المساعدات الأمريكية لـ "الأونروا" بلغ (360) مليون دولار في عام 2016.
ما يحدث الآن بالتنسيق بين واشنطن و"تل أبيب" هو الدفع باتجاه ضمّ المُسجلين في "الأونروا" لبرنامج المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) على مبدأ توحيد الجهة المعنيّة باللاجئين من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لماذا نحن مع الأونروا وضد UNHCR؟
هذا سؤال وجيه ومطروح ويستدعي فهم الخلفيّة التاريخيّة لوجود كل برنامج منهما وخصوصاً أنّ كليهما معني باللاجئين.
تأسست الأونروا بموجب القرار رقم (302) رابعاً الصادر في 8 كانون الأول 1949، وبدأت عملياتها عام 1950 في مناطق تواجد اللاجئين كاستجابة لمسألة اللاجئين الفلسطينيين الذين خرجوا من ديارهم على أثر الحرب العربية – "الإسرائيلية" عام 1948، وهذا اعتراف دولي بالاحتلال وبحق اللاجئين في العودة لأرضهم وبيوتهم ومصدر رزقهم.
في المقابل أعلِن عام 1950 عن برنامج آخر باسم "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR" والتي باشرت عملها في العام التالي مُتخصصة فقط باللاجئين الأوروبيين ولكنها شملت فيما بعد اللاجئين خارج أوروبا أيضاً.
لسنوات استُبعِد منتفعو "الأونروا" من برنامج UNHCR بحسب المادة (1 د) من اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967، والتي تستثني من يحصل على خدمات مُشابهة من هيئة أو وكالة أخرى تابعة للأم المتحدة، ولكن خطورة هذه المادة تكمن في فقرتها الثانية التي تُتيح الانتفاع من برامج المفوضيّة السامية في حال توقّف الحماية والمساعدة من أي من تلك الجهات، أي "الأونروا" في حالة اللاجئين الفلسطينيين.
في نهاية كانون الأول / ديسمبر 2017، أصدرت UNHCR شروحات وإرشادات جديدة للتعامل مع هذه المادة (1 د من اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967)، وبيّنت بشكلٍ جليّ كيف يُمكن ضم المُنتفعين من برنامج "الأونروا" في برنامجها، وبالعودة للفقرة الثانية من المادة المذكورة يكمُن الجواب وهو حسب الوثيقة الجديدة له عدة أشكال أهمها إنهاء ولاية "الأونروا" بموجب قرار من الجمعيّة العامة للأمم المتحدة أو عجز وكالة الغوث عن القيام بالمهمّات التي وُجِدَت من أجلها ومن هنا يُمكننا قراءة العجز المالي لوكالة الغوث وأثره الحقيقي على سير العمل في خدمات الوكالة، بل وانتفاء سبب وجودها.
لنفهم أكثر ما يجري دعونا نقرأ الفرق الجوهري بين البرنامجين، والذي يبدأ من تعريف اللاجئ الذي تُحدده "الأونروا" بأنه أي فرد من "اللاجئين من فلسطين" عام 1948، "والمُشرّدين" من ديارهم عام1967، وذُريّتهم. أمّا UNHCR فتعتبر اللاجئ هو المضطهد الذي خرج من حدود بلده الدولية وفقد حماية حكومة الدولة التي يحمل جنسيتها.
من جهةٍ أخرى، ترى "الأونروا" حل مشكلة اللاجئين والنازحين بالعودة إلى ديارهم ولا تُسقط هذا الحق إن حصل المسجلين لديها على جنسيّات أخرى، أما UNHCR فلديها حلول أخرى تتمثّل إمّا بالعودة الطوعية للبلد الأصلي، أو التوطين في بلد اللجوء (الحصول على جنسية أخرى)، وأخيراً توطين هؤلاء اللاجئين في بلد ثالث (الحصول على جنسية أخرى).
دعونا نقوم بمُحاكاة صغيرة لحلول UNHCR للمسجلين لدى "الأونروا" ، بدايةً لن تسمح "إسرائيل" بعودة أي من اللاجئين أو/و النازحين، وهذا أمر واقع ومصيبة كبيرة، يليها الحل الآخر في التوطين في بلد اللجوء حيث ستكون الكارثة مُركّزة في الأردن، فبحسب الحلول المطروحة من المفوضيّة، لا ينتفع من البرنامج أي شخص حصل على جنسية بلد آخر تستطيع حكومته توفير الحماية له، وبذلك وبشكل تلقائي سيتم توطين (41) بالمائة من أعداد اللاجئين الفلسطينيين المُسجّلين في وكالة الغوث في الأردن ممّن حصلوا على أرقام وطنيّة، نضيف لهذا السيناريو واقع أساسي مُتمثّل في الفقرة (ج) من المادة (٨) في معاهدة وادي عربة بين النظام الأردني و"إسرائيل" التي تتحدث صراحة عن توطين اللاجئين والنازحين من خلال تطبيق برامج الأمم المتحدة المُتعلقة بهم.
أما فيما يخص لاجئي ونازحي الأرض المحتلة فأولئك بشكلٍ عملي لا يُمكن حل مشكلتهم حتى إن قامت "دولة المسخ" على فُتات أرضنا العربية الفلسطينية من النهر للبحر. فلا دولة حقيقية مهما تبجّحت السلطة الفلسطينية بوجودها أو عملت وستعمل لتحقيقها في ظل سيادة دولة الاحتلال على المعابر والموارد والطرقات وحتى الدعم المادي. ينطبق موضوع الجنسية الأخرى هذا على مئات الآلاف بل يصل للملايين ممّن حصلوا على جنسيات أجنبية في القارات الخمس.
أما الحل الأخير المُتمثّل في التوطين في بلد ثالث فستقوم UNHCR بدور وسيط للتوطين في بلدان أخرى، وعلى رغم محدوديّة الدور الذي قامت به سابقاً بالنسبة للفلسطينيين المُسجّلين لديها ولا ينتفعون من برنامج "الأونروا" كاللاجئين الفلسطينيين في العراق، إلا أن هذا الخيار هو أفق التخلّص من الصداع الذي يسببه الفلسطينيون لدولة الاحتلال التي تسعى لتهجيرهم وإسقاط فلسطينيّتهم، وبذلك يبدو مفهوماً الضغط المُتزايد والحصار على أهلنا في قطاع غزة المُنتظرين لفتح المعبر على أمل الانعتاق من السجن الكبير الذي تآمر الجميع على وجوده.
من المُفزع التفكير أنّ هذا "الترانسفير الجديد" من داخل الأرض المحتلة قد يتولّاه مكتب الـUNHCR في "تل أبيب" بوصفه أقرب مكتب على أماكن تواجد لاجئي ونازحي الداخل وحتى الفلسطينيين العاديين من سيُدفعون دفعاً للمغادرة. ربما تكون هذه فرضيّات، ولكنها مبنيّة على وقائع وخطوات عمليّة لمرحلة بدأت تتشكّل ملامحها، ونحن معنيّون بتوقع الأسوأ والتحضير له.
في ذات السياق، المُتعلّق بالخيار الثالث من الحلول المُقدّمة من مفوضيّة اللاجئين، وكي تتضح الصورة أكثر، يجب ألّا نُسقِط من حُسباننا اللاجئين الفلسطينيين خارج مناطق عمل "الأونروا"، العراق على وجه الخصوص، هؤلاء مثال حي وحقيقي لأفق حلول UNHCR لمشكلة اللاجئين، حيث لم يكونوا يوماً ضمن برنامج وكالة الغوث، وتحمّلت الدولة العراقية مسؤوليتها تجاههم إلى أن سقط نظام البعث عام 2003 بعد الحرب على العراق ولجأوا للحدود مع الأردن وسوريا، دون السماح لهم بدخول البلدين، وأقاموا خارج الرعاية الدولية في ظروف مُزرية، إلى أن قدّمت المفوضيّة حلّها التوطيني؛ فتبعثروا في دول عديدة منها البرازيل، ولكن مشكلتهم حتى مع حصولهم على لجوء وتجنيس لم تُحل خصوصاً مع انسحاب المفوضيّة من مسؤولياتها اتجاههم وتخلّيها عنهم، بينما يواجهون مجتمع بعيد وغريب لم يستطيعوا الاندماج فيه، ولم تكن هناك جهود حقيقيّة لدمجهم.
من الناحية العملية والتوثيقيّة، أدّت UNHCR التزاماتها تجاههم، ولكن من الناحية الإنسانية ما حصل هو امتداد لمعاناة اللجوء الأول وتفريط في حق اللاجئين الأساسي بالعودة، وتلاعُب في مصيرهم، واستدراجهم لمستقبل مجهول بحجّة تخليصهم من المعاناة.
بالرغم من الدور الذي لعبته إدارة "الأونروا" ومن يقف وراءها في إيصال الحال إلى ما هو عليه، والتآمر الضمني على حقوق الشعب الفلسطيني والتضليل وإخفاء الأرقام الحقيقية لأعداد الفلسطينيين المُسجّلين لديها، وأين يتواجدون وهم يُشكّلون الآن أعداد ضخمة في المهجرـ بالرغم من ذلك كله يجب الوقوف بشكلٍ جدّي مع خيار بقاء "الأونروا"، بصفتها الاعتبارية والقانونية، فهذه هي الجهة الدولية الحامية لحق العودة، وصفقة القرن جاءت لإسقاطه، فلا مدن حتى وان كانت القدس تتمتع بالقداسة من دون أهلها.