سوريا - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
أوس يعقوب
"يا وحدنا .. يا الله ما إلنا غيرك"؛ جملة يتردد صداها كثيراً بين فلسطيني سوريا منذ أكثر من خمس سنوات من عمر الأزمة السورية المشتعلة، بعد أن وصلت نيران الحرب إلى مخيّماتهم في دمشق وريفها، خاصة مخيّم اليرموك، الذي اجتاحته مجموعات من المعارضة السورية المسلحة في كانون الأول/ ديسمبر 2012، وقُصفَ بعد أيام بطيران (الميغ)، ليجد أكثر من 130 ألف فلسطيني من سكان المخيّم أنفسهم في مهب الريح وهم يواصلون العيش كمنكوبين على إيقاعات الطائرات والمدافع وانفجار السيارات المفخخة وقذائف الهاون والعبوات الناسفة داخل المخيّم وخارجه، هذا ناهيك عن الموت جوعاً جراء حصار المخيّم من كافة مداخله.
يعيش السوريون ومعهم من تبقى من اللاجئين الفلسطينيين هنا منذ آذار/ مارس 2011 عذابات وويلات القتل والدمار والتجويع والتشريد، لتدفع النار المستعرة في أرجاء البلاد قرابة سبعة ملايين نسمة للنزوح واللجوء بعدما دُمّر قرابة المليوني بيت، وبعد أن مَسحت آلة الحرب مناطق كاملة عن وجه الأرض.
وكما لم يجد أبناء البلد سنداً من أي جهة عربية أو دولية وجد الفلسطينيون أنفسهم بحال ليس أقل كارثية بعد أن غاب دور منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"؛ غياب شمل كافة النواحي بدءاً بالدعم السياسي وليس انتهاءاً بتقديم العون المالي والمساعدات الإغاثية.
ومما زاد الطين بلة غياب أي دور كذلك للسلطة الفلسطينية في رام الله، ولقوى وفصائل العمل الوطني الفلسطيني في سوريا، وكذلك غياب حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي"، وإن حاولت الأخيرة لعب دور حيوي في مجال الإغاثة الإنسانية في بعض المخيمّات والتجمعات الفلسطينية بدمشق وبعض المدن السورية.
غياب "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" عن الأزمة السورية المشتعلة لم يقتصر على معاناة أهالي مخيّم اليرموك فقط، وإنما شمل كافة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، سواء من هم في المخيّمات (12 مخيّماً تتوزع على عديد من المدن السورية)، أو في تجمعاتهم التي استقروا فيها منذ عدة عقود كتجمعات "حيّ الأليانس" و"حيّ ركن الدين" و"الحسينية"، وتلك التي نشأت بعد النزوح من اليرموك كتجمع "قدسيا"، ناهيك طبعاً عن انتشارهم في عموم الأراضي السورية، ذلك أن تداخل المخيّمات والتجمعات الفلسطينية مع محيطها من المناطق السورية والانصهار الاجتماعي وحتى العائلي بين كثير من السوريين والفلسطينيين، أمراً جعل مسألة تتبع أوضاع اللاجئين شديد الصعوبة.
ويوماً بعد يوم تزداد ويلات هؤلاء اللاجئين الذين مازالوا في سوريا جراء استعار نيران الحرب، تلك النيران التي حصدت حتى اليوم نحو 3660 لاجئ فلسطيني سوري، بحسب ما ذكرت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا"، وهو ما اضطر عشرات الآلاف من الفلسطينيين للهرب من جحيم هذا الواقع.
وإذ نركز في مقالنا هذا على مخيّم اليرموك وأثر غياب المنظمة والسلطة عن لعب الدور الواجب تجاه نكبة لا تقل مأساوية عن نكبة العام 1948، فذلك لأن الحصار الجائر في ظل وضع ميداني متفجر، وتزامنه مع فقدان سبل العيش الكريم وتدهور الأوضاع الاقتصادية، جعلا من الخوف والموت قهراً وجوعاً وغرقاً .. ألف باء حياة الفلسطيني السوري في جغرافيا لا تتوقف عن نزف الرعب والتفتت، لتترك أرواح عشرات الآلاف من الفلسطينيين معلقة بين الآلام والآمال.
رهانات سياسية خاسرة ..
رغم طرح أكثر من مبادرة من قبل منظمة التحرير وفصائلها و سلطة أوسلو والفصائل، لإنهاء كافة المظاهر المسلحة في المخيمات الفلسطينية في سوريا، وبالخصوص مخيّم اليرموك، وفك الحصار عنه لتأمين عودة الأهالي إليه بسلام، إلا أنها جميعها وصلت لطريق مسدود بسبب عدم وجود "قيادة موحدة" للاجئين الفلسطينيين هنا، الذين انقسموا بدورهم بين موال للنظام ومعارض له.
سياسياً، كان موقف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية منذ بدء الأحداث يدعو إلى التمسك بمبادرة فلسطينية توصلت إليها قيادة المنظمة والفصائل الفلسطينية ال14 في دمشق منذ أربع سنوات، مفادها إتباع (سياسة النأي بالنفس) واتخاذ موقف (الحياد من طرفي النزاع)، والرفض القاطع للحل العسكري لإنهاء أزمة مخيّم اليرموك. وهذا ما أعلن عنه مراراً موفد الرئاسة الفلسطينية لسوريا، الدكتور أحمد مجدلاني، عضو تنفيذية منظمة التحرير.
وبحسب مراقبين ومتابعين للأوضاع في سوريا، فإن تشخيص الحالة يدعونا إلى القول أنّ هناك خللاً في إدارة شؤون أوضاع الفلسطينيين السوريين في ظل أزمة معقدة ومتعددة الأبعاد.
موطن الخلل هنا يكمن في أنّ مجموع القوى الفلسطينية العاملة وعددها أربعة عشر فصيلاً يضاف إليها منظمة التحرير ممثلة بالموفد الرئاسي لسلطة رام الله، تتفق على العنوان العام للموقف الوطني وهو (الحياد الإيجابي)، دون قدرتها على تعريف معنى هذا (الحياد)!. كذلك اختلاف هذه القوى الفصائلية في التفاصيل وفي وضع آليات العمل المطلوبة منها تجاه المجتمع الفلسطيني.
ولا يختلف اثنان على أن هذه القوى ومعها قيادة منظمة التحرير لم ترتقِ حتى الآن إلى مستوى الحدث المشتعل، حيث أنها لم تستطع حتى الآن توفير مرجعية وطنية لعموم الفلسطينيين في سوريا، لأسباب تتعلق بالخلافات والتباينات في صفوفها، وقصور رؤية البعض منها لمسار الأحداث، حيث فضل بعضها اتخاذ موقف انتظاري لما ستؤول إليه الأحداث في البلاد، فيما فضل آخرون اتخاذ موقف الركون والنأي بالنفس بدلاً من الغوص في أحوال الناس.
وقد كشفت محنة اليرموك وباقي المخيمات الفلسطينية في سوريا، عن أزمة وطنية عميقة، وعن مشكلات حادة تدخل في صميم علاقة اللاجئين بمرجعيتهم الوطنية، وإن قسطاً كبيراً مما آل إليه وضع فلسطينيي سوريا يعود إلى تخلي منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية عموماً عن مسؤولياتهم الوطنية والأخلاقية تجاه شعبهم المنكوب.
وفي هذا السياق يؤكد ناشطون فلسطينيون تواصلت معهم شخصياً، أنهم ليسوا متفائلين بأي دور ايجابي يمكن أن تؤديه قيادة منظمة التحرير وسلطة أوسلو أو أي فصيل من الفصائل الفلسطينية. بل يرى هؤلاء أن "تنفيذية منظمة التحرير" وكل قادة العمل الوطني الفلسطيني يتحملون مسؤولية ما آلت إليه الأمور، جراء إهمال القيادة الفلسطينية المستمر لأوضاع اللاجئين الفلسطينيين السوريين، وعدم الاكتراث لما مرّ بهم ، ولما تتعرض له مخيّماتهم من استباحة يومية من أكثر من طرف من أطراف الصراع.
وبعيداً عن التجاذبات والخلافات الفصائلية فإنّ وقائع ما حدث ويحدث في مخيّم اليرموك وباقي المخيّمات في السنوات الماضية، كشف عن الطامة الكبرى في أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا الذين أصبحوا عملياً بلا مرجعية ملموسة، بعد أن تحللت كل الفصائل والقوى الفلسطينية عن مسؤولياتها تجاه مجتمع اللاجئين، الذين يعيشون الآن أوضاعاً كارثية نتيجة الانعكاسات العامة للأزمة. في وقت لا تزال الجهات الضالعة في الصراع الدائر هنا تمعن في عنادها؛ وإصرارها، على عدم ايجاد حل لمخيّم اليرموك وباقي المخيّمات يضمن للفلسطينيين عودة أمنة لبيوتهم ومخيّماتهم.
(م.ت.ف): 5 دولارات لكل فلسطيني!..
لم يكن من قبيل المبالغة أن تنشر صحيفة "الغارديان" البريطانية في مطلع العام 2014، تقريراً تحت عنوان: "اليرموك مصطلح أضيف لقاموس الأعمال الوحشية بحق البشرية"، والذي أشار فيه المسؤول الأممي كريستوفر جنيس، الناطق حينها، بلسان أعمال الإغاثة التي تقوم بها وكالة (الأونروا)، إلى أن (مخيّم اليرموك هو "مدعاة خزي للعالم"). ويضيف: "(هذا المخيّم الصاخب الذي كان ينبض بالحياة انقلب حاله في الأشهر الأخيرة وأصبح اسمه يرتبط بكلمات جديدة هي سوء التغذية، وموت النساء أثناء الولادة، وغياب الرعاية الطبية، والحصار الذي دفع السكان إلى تناول الأعلاف والحشائش).
الأوضاع اليوم ليس أقل مأساوية وهي ما زالت "مدعاة خزي للعالم"، ورغم أنه لا تستطيع أي جهة رسمية كانت أو شعبية تقدير حجم الدمار الذي لحق بالمباني السكنية والمنشآت العامة والخاصة في المخيّم، بعد خمس سنوات من تغريبة أهالي اليرموك إثر خروجهم الجماعي في 16/12/2012، فإن ما لحق بالبشر تفصح عنه الكثير من التقارير والاحصاءات الدولية التي تصدرها (أونروا)، والتي تشير بمجملها إلى مؤشرات مأساوية.
لم يكن مخيّم اليرموك وهو أكبر تجمع للاجئين في سوريا وحده ضحية الحرب، فقد تعرض مخيّم درعا جنوبي سوريا لقصف عنيف، ما أدى إلى نزوح أكثر من 90% من سكانه. كذلك تعرضت مخيّمات سبينة والسيدة زينب وخان الشيح وخان دنون والرمدان بريف دمشق لدمار كبير، كما لحقت أضرار كبيرة بمخيّم العائدين في حمص، ومخيّمي حندرات والنيرب في حلب شمالي سوريا.
ومع صعوبة تقدير حجم الخسائر المادية التي لحقت بالسواد الأعظم من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إلا أن ملامح الكارثة الإنسانية والاقتصادية التي أفرزتها الحرب تتّضح للعيان يوماً بعد يوم.
وتؤكد البيانات والمؤشرات الإحصائية الصادرة حديثاً من قبل (أونروا) وهيئات حقوقية وإغاثية فلسطينية أن استمرار الوضع على ما هو عليه لأشهر أخرى سيفاقم الكارثة، خاصة بعد إعلان (أونروا) أنها ستعلق الكثير من خدماتها بعد أيار/ مايو المقبل جراء أزمتها الافتصادية.
ورغم هول ما يمر به فلسطينيو سوريا الآن فإنه يمكننا الجزم أن دور السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وكافة الفصائل الفلسطينية عبر هيئات الإغاثة التابعة لها لم يكن بالمستوى المطلوب إطلاقاً، فكل المساعدات المقدمة من هذه الأطراف للعائلة الفلسطينية المتكونة من خمس أفراد كحد أدنى، لم يتجاوز في سنوات الأزمة حفنة من الدولارات، مع الإشارة إلى أن مؤشرات التنمية البشرية بدمشق شهدت تدهوراً خطيراً جداً، كما شهدت الأسعار وأجور البيوت تضخماً تجاوز الـ 300%!.
نعم، هذه هي الحقيقة الصادمة فمنظمة التحرير وسلطة أوسلو قامتا ولمرة واحدة منذ بدء الأزمة بتوزيع مساعدة قيمتها (1500 ليرة سورية) أي ما يعادل حينها (5 دولارات) للفرد الواحد!. وبحسب متابعتي الشخصية للأمر فإن الكثير من اللاجئين لم يتسلموا هذا المبلغ الزهيد إما جراء بيروقراطية القائمين على أمر توزيع هذه "المكرمة" من جهة، أو لرفض شريحة واسعة من اللاجئين هذا المبلغ رغم ضيق ذات اليد للكثيرين منهم، لاعتبار ما يمثله من إهانة لهم وتأكيداً على الاستياء من موقف ودور "ممثلهم الشرعي والوحيد".
هذا الأمر لم يقتصر على فلسطيني مخيّم اليرموك فقط، وإنما على كافة الفلسطينيين الموزعين في الأراضي السورية، ضمن خمس عشر مخيّماً وتجمعاً، منتشرين في المدن من أقاصي الجزيرة في محافظة الحسكة وصولاً إلى محافظة السويداء جنوب سوريا.
دعوة لتوفير الحماية الدولية لفلسطيني سوريا..
إجمالاً يمكننا القول إن ما تتعرض له سورية سينسحب على الفلسطينيين بشكل مؤكد، إن كان سياسياً أو في فيما يتعلق بوجود اللاجئين وحقوقهم المؤقتة هناك، حتى بالرغم من المحاولات المستميتة من القيادة الفلسطينية التي تتبنى موقف (النأي بالنفس والحياد)، حتى لا يكون الوجود الفلسطيني المنخرط بتركيبة المجتمع السوري في دائرة الاستهداف.
والآن، وبعد عشرات المبادرات الأهلية من قِبل "الهيئة الوطنية الأهلية الفلسطينية" وهي كيان فلسطيني مستقل شكل نواته عدد من الشخصيات الفلسطينية العامة من أبناء المخيّم، والكثير من الزيارات المكوكية للموفد الرئاسي القادم من رام الله إلى دمشق، د.أحمد مجدلاني، وعدة زيارات قام بها عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس دائرة شؤون اللاجئين فيها، القيادي الفتحاوي زكريا الآغا، قادماً من قطاع غزة إلى سوريا، فإن أحوال اللاجئين الفلسطينيين هنا تحت الصفر.
ومع مواصلة رحلة العذّاب هذه لابد من تحميل منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها المرجعية السياسية الأولى للاجئين الفلسطينيين أينما تواجدوا، المسؤولية الرئيسية عن هذه المأساة، ودعوتها لتحمل مسؤوليتها تجاه الفلسطينيين في سوريا لتوفير أحوال معيشية تؤمن لهم حياة كريمة لائقة بانتظار انتهاء الأزمة السورية حيث لا بديل عن ذلك الموقف.
وكذلك يجب على منظمة التحرير وسلطة أوسلو في رام الله مطالبة منظمات وهيئات المجتمع الدولي والمنظومة الأممية بتوفير الحماية الدولية للاجئين الفلسطينيين في سوريا، وفقاً لما تنص عليه القوانين الدولية المتعلقة بتأمين حماية اللاجئين.
وما استمرار هذه الحالة المعقدة لأوضاع الفلسطينيين في سوريا، وكذلك استمرار حالة الصمت الفلسطيني الرسمي وغياب مرجعية وطنية، وانعدام أي موقف عربي رسمي، يضاف إليه عجز منظمات وهيئات المنظومة الأممية، فإن مصير اللاجئين الفلسطينيين في سوريا سيبقى تحت رحمة أطراف الصراع السوري - السوري، والسوري - الاقليمي، بأبعاده الداخلية والدولية، مهدد ويجعلهم بلا ضامن لسلامتهم وأمنهم واستقرارهم.