مقال: أوس يعقوب

بدأت سلطات الاحتلال، يوم أمس الأحد 13 أيّار/ مايو، احتفالاتها التقليدية بالذكرى الواحدة والخمسين لما تطلق عليه (ضم القدس) أو (توحيد القدس)، وذلك وسط إجراءات أمنية مشددة، تزامنًا مع اقتحام المئات من المستوطنين المسجد الأقصى المبارك إحياءً لهذه الذكرى، ما أدى إلى حدوث اشتباكات عنيفة بالأيدي، بين هؤلاء المستوطنين وشرطة الاحتلال وقواته الخاصة من جهة وحراس المسجد وموظفي دائرة الأوقاف الإسلامية من جهة ثانية.

وبحسب إعلام الاحتلال فسوف تصل الاحتفالات ذروتها عصر اليوم الاثنين، تزامنًا مع احتفالات افتتاح السفارة الأمريكية في مدينة السلام، الذي سيحضره وفد أمريكي رسمي رفيع المستوى يضم وزير الخزانة ونائب وزير الخارجية وابنة الرئيس الأمريكي إيفانكا ترامب، وزوجها المستشار الخاص جاريد كوشنير، وعشرات من أعضاء الكونغرس الأمريكي.

المراقب لتطورات الأوضاع في فلسطين المحتلة يلاحظ كيف أنّ الرئيس دونالد ترامب، الذي تعمد أن يكون يوم افتناح سفارة بلاده في القدس هو عشية الذكرى السبعين للنكبة، أحدث تغييرًا جذريًا في السياسة الأمريكية من خلال نقل السفارة من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، واعتبارها "عاصمة موحدة" لدولة الاحتلال، من أجل تحقيق مكاسب شخصية انتخابية وبدوافع ليس لها علاقة بالأمن القومي الأمريكي، وكيف أنّ إدارته اليمينية التي تعلم جيدًا أنّه بدون (قدس عربية) لن يكون هناك سلام حقيقي ودائم، كانت على يقين أنّها لن تكون في حاجة إلى عمل الكثير للتخفيف من تداعيات قرار النقل، حيث سيقتصر أمر العرب والمسلمين على صيحات استهجان، وبيانات استنكار من دول صديقة وعدوة.

كما لم تكترث إدارة البيت الأبيض كثيرًا بمقاطعة سلطة أوسلو في مقاطعة رام الله المحتلة إلى حد كبير للولايات المتحدة بشكل علني، ناهيك عن توقف المحادثات حول الوضع النهائي بين قيادة منظمة التحرير وسلطة أوسلو وكيان الاحتلال.

مخططات أمريكا وعربها لشطب حق العودة ..

المؤسف حقًا تجاه كلّ ما يجري اليوم، هو التقديرات السياسية والإعلامية الأمريكية التي وصلت إلى حدّ أنّ هذا القرار هو الإنجاز الرئاسي الأكثر ديمومة بالنسبة إلى ترامب، ذلك أنّه لا يعني تغييرًا في عنوان السفارة فقط بل هو حدث تاريخي سيضع الأساس لـ"سلام قائم" على الحقيقة من وجهة نظر أمريكية صهيونية، غير أنّ حاجة إدارة ترامب الملحة إلى ظهور أمريكا بمظهر (صانع السلام)، وبسبب ضرورة استمرار اللعبة الدبلوماسية لاستخدامها في الأوقات التي تسبق الأزمات الصعبة للتخفيف من الردود الشعبية، فقد خرجت بعض الأفكار من سياسيين أمريكيين من الحزب الجمهوري تتحدث عن أنّ إدارة البيت الأبيض ستطلب من بنيامين نتنياهو إعادة تصنيف عدد قليل من أحياء القدس كجزء من الضفة الغربية، ذلك أنّ خطوة ترامب الدراماتيكية تأتي في سياق ما اصطلح على تسميته في المشهد السياسي العربي – الدولي بـ(صفقة القرن)، بالتزامن مع ما كشفته صحف أمريكية من تسريبات لاقتراح قدمه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بإختيار بلدة "أبو ديس" لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية بدلًا من القدس المحتلة التي ستصبح عاصمة رسمية لـ(إسرائيل).

إنّ إدراك ترامب ومن في ركابه من الزعامات والحكومات العربية أنّ هذه الصفقة اللعينة لن تمر إلّا بالمزيد من الضغط على الفلسطينيين، منظمةً وسلطةً وشعبًا، دفع بإدارة البيت الأبيض إلى تصعيد غير متوقع على الصعيد الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي، وذلك باتخاذ قرار يقضي بتقليص الدعم الأمريكي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" سعيًا لتركيع الشعب الفلسطيني ليقبل بشروط (صفقة القرن)، التي تكشف الجوهر الحقيقي للسياسة الأمريكية تجاه الكيان المحتل، وبالتالي تخلي الفلسطينيين عن أقدس حقوقه أيّ حق العودة، الذي يشغل بال قادة الحركة الصهيونية منذ اغتصابهم للأرض واقتلاعنا منها قبل سبعين عامًا. 

"الرجل الأبيض" في خدمة مصالح تل أبيب

يشير المؤرخ والمفكر الفلسطيني الأمريكي، البروفيسور رشيد الخالدي (أستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا)، في دراسة له، أنّ الوضع القانوني للقدس موضع نزاع منذ أكثر من ستين عامًا، أيّ منذ اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم الشهير في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وكان موقف الإدارة الأمريكية حول هذه المسألة في غاية الأهمية. فمنذ ذلك الحين، تم اتخاذ مواقف أصبحت ثابتة أو شبه ثابتة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، بينما تغيرت الكثير من المواقف الأخرى لها.

ويبين المؤرخ الفلسطيني أنّه كان ولا يزال أساس سياسة الولايات المتحدة تجاه القدس قرار التقسيم، أيّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 للتاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1947، الذي دعا لإبقاء مدينة القدس وجوارها جسمًا منفصلًا تحت رعاية دولية، وذلك طبعًا ضمن تقسيم فلسطين إلى دولتين: "دولة عربية تضم أقل من 45 % من أراضي فلسطين، ودولة يهودية تضم 55 % تقريبًا من أراضي فلسطين". ومنذ ذلك الوقت، لم تعترف الولايات المتحدة يومًا، بسيادة (إسرائيل) القانونية على أيّ جزء من القدس، تاركةً الأمر حتى يتم إقرار وضع المدينة القانوني خلال المفاوضات بين القيادة الفلسطينية وحكام تل أبيب، ولم يتغير هذا الموقف منذ عام 1947 ، وهذا موقف الولايات المتحدة وموقف معظم دول العالم. لافتًا إلى أنّه مع ذلك، يجب أن ننتبه إلى حقيقة أنَ الولايات المتحدة اعترفت وتعترف، بسيطرة (إسرائيل) الواقعية على القدس الغربية، كما اعترفت على سيطرة الأردن الواقعية على القدس الشرقية من عام 1967 – 1948، ولم تعترف ولم تقبل أمريكا بضم (إسرائيل) للجزء الشرقي العربي للقدس عام 1968 ، وصوتت عدة مرات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح قرارات تدين هذا الإجراء، وتدين إجراءات سلطات الاحتلال الأخرى في القدس الشرقية.

وتؤكد كافة المعطيات التاريخية المعاصرة أنّ موقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة على صعيد السياسة الخارجية من وضع القدس يعدّ حساسًا جدًا. الأمر الذي دفع بالكاتب والمحلل السياسي الأمريكي اليميني، توماس فريدمان، بوصفه -حين يتعلق الأمر بالعرب- بـ"جوهرة تاج السياسة الأمريكية"، لذا شكّل قرار ترامب صدمة كبرى ليس فقط بالنسبة للفلسطينيين والعرب والدول الإسلامية، بل حتى للأمريكيين أنفسهم من المحافظين الجدد. 

ووفقًا لقانون القدس الأمريكي العائد لسنة 1995، كان يجب على أمريكا أن تنقل سفارتها من تل أبيب، إلى مدينة القدس بحلول شهر أيّار/ مايو 1999 واعتبارها عاصمة موحدة لدولة (إسرائيل). غير أنّ إدارات البيت الأبيض المتعاقبة على امتداد أكثر من عشرين عامًا مضت، بدءًا بكلينتون مرورًا ببوش الابن وباراك أوباما، اعتبرت القانون تعدّيًا في صلاحيات الكونغرس على السلطات التنفيذية لها. ومنذ ذاك العام، عمد سائر رؤساء أمريكا إلى توقيع تمديد (كلّ ستة أشهر) يسمح ببقاء السفارة في تل أبيب. مبررين ذلك في أنّ القرار قد يؤجج حالة العداء الفلسطيني والعربي والإسلامي للولايات المتحدة ويهدد أمنها القومي، ويدمر السعي لإنجاز حل سلمي عادل وشامل في منطقة الشرق الأوسط.

ورغم ما تحاول أميركا، الراعي الأول للتنسيق الأمني بين سلطة أوسلو وسلطات الاحتلال الصهيوني، من خلال المنسق الأمني الأميركي الذي يتبدل اسمه الشخصي بين الحين والآخر، رغم ما تحاول بثه من أنّها "طرف وسيط بين (الإسرائيليين) والفلسطينيين"، إلّا أنّها كانت ولا تزال حريصة تمامًا على مصالح تل أبيب عبر ملامح رئيسية ومعالم وخطوات عملية لسياساتها التي يلمسها الفلسطيني في حياته اليومية في الضفة الغربية وقطاع غزة، دون القدرة على أيّ فعل مقاوم طالما يجردنا التنسيق الأمني في الضفة الغربية من كلّ ما يمكننا من المواجهة ومقارعة الاحتلال، في وقت يزيد فيه حصار غزة من شلّ مقاومتنا وحركتنا الوطنية.

"تنسيق أمني" يغتال المقاومة ..

قد لا يعرف البعض أنّ أميركا تشارك سلطات الاحتلال في تل أبيب في تقييم وضع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية من نواحي التسليح والجهوزية والرواتب و"التثقيف"، وكذلك أسّس قبول الأشخاص في هذه الأجهزة، ومقتضيات إنهاء خدماتهم. كما وتعمل مع القيادة العسكرية للاحتلال على تقييم المرشحين لقيادة الأجهزة الأمنية ومعاونيهم ومساعديهم المباشرين، وتقييم الضباط الفلسطينيين القائمين على "حفظ أمن (إسرائيل)"، ومراقبة مدى التزامهم بمعايير وإجراءات ملاحقة الإرهاب والإرهابيين (أيّ المقاومة الفلسطينية)!! وهنا يأتي السؤال الوطني الكبير ونحن نحيي ذكرى سبعينية نكبة الآباء والأجداد، وهو: كيف يمكن لهكذا سلطة أن تدافع عن حقوق الشعب التي تنتهك يوميًا، والتي تعمل من خلال جهاز ما يسمى (الأمن الوقائي الفلسطيني) على مصادرة حق الشباب الفلسطينيين في التظاهر –مجرد التظاهر- ضد سياسات أمريكا وحربها المعلنة ضد كلّ ما هو فلسطيني؟ سؤال لن تكون الإجابة عنه إلّا بانتفاضة شعبية ثالثة تكنس الاحتلال وكلّ من يتعامل معه ضد الحق الفلسطيني التاريخي بالأرض، وفي مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة الأمريكية وذيولها من فلسطينيين وعرب.

إنّ الاحتلال الصهيوني الذي فشل عبر العقود السبعة الماضية في تذويب الشعب الفلسطيني، يجد اليوم في قرار إدارة ترامب، التي تشنّ حربًا شعواء لا هوادة فيها على الفلسطينيين، حالة من الخلاص من التزامات قادة تل أبيب تجاه اتفاقية أوسلو وما تلاها من اتفاقيات مذلة، ذلك أنّ أخطر ما في قرار الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، مستقبلًا أنّ أيّ إدارة للبيت الأبيض ستأتي بعد انتهاء ولاية ترامب سواء كانت من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، فإنّها لن تتراجع عن هذا القرار المشؤوم، ما يعني أنّ السياسة الأمريكية بعد سنوات لن تتغير بتغيّر الرئيس، وستُبقي على مصالح (إسرائيل) ضاربة بعرض الحائط حقوق الفلسطينيين الذين خذلتهم قياداتهم السياسية قبل أن تغدر بهم سياسات زعماء وقادة العالمين العربي والإسلامي.

القدس ضحية الخرافات التوراتية ..

إنّ "أمريكا بلد حداثي قائم على العلم، ولكن حين يتعلق الأمر بـ(إسرائيل) فإنّها تتحول دفعة واحدة إلى مؤسسة من الخرافة". هكذا يرى المفكر السوري الأمريكي منير العكش، (دولة الرجل الأبيض)، وهو ما يفسر ما ذهبت إليه تقارير صحفية أمريكية من أنّ سيد البيت الأبيض الحالي تعرض لضغوط كبيرة من قبل التيار المسيحيّ الصهيونيّ لدفعه لاتخاذ قراره الأخير. فهذا التيار لم يكن راضيًا عن تمديد الرئيس لبقاء السفارة في تل أبيب، قبل ستة أشهر من توقيع القرار. وكان يدفع طوال تلك المدة نحو وقف عملية التمديد والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لـ(إسرائيل)، ويعدّ شيندول أنديلسون، الملياردير المعروف الذي أنفق نحو ثلاثين مليون دولار كتبرعات لحملة ترامب الانتخابية، أبرز وجوه هذا التيار.

وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، فإنّ ترامب التقى المليادير الصهيوني قبل إعلان القرار بيومين، وخرج الأخير ليعلن عزم الرئيس نقل السفارة للقدس، ما يعني التزامه بوعوده الانتخابية للمسيحية الإنجيلية، والمسيحية الصهيونية عمومًا، والتي مثّلت القاعدة الانتخابية الأهم لترامب، الذي شكك الصحافي الأمريكي مايكل وولف في كتابه "نار وغضب" الصادر مؤخرًا في واشنطن، بصحته العقلية وأهليته لحكم أمريكا. 

خاتمة القول: إنّ وعيّ الفلسطيني داخلًا، قدسًا وضفة وغزة وأراضي 48، وشتاتًا وفي المنافي البعيدة، بأنّ نقل السفارة وضم الجزء الشرقي من القدس إلى كيان الاحتلال يعني استكمال التهويد، ومزيد من التضييق على المقدسيين ومصادرة ممتلكاتهم وفرض ضرائب باهظة عليهم، وسحب هوياتهم، وتهويد التعليم في المدينة وغير ذلك من المظالم التي ستقع على الفلسطينيين عامة والمقدسيين خاصة، يجعلنا ندرك أنّ هذه القرار مصيره المحتوم هو الزوال، طالما أنّ هناك شعبًا عازمًا على مواصلة المقاومة حتى تحرير فلسطين، وما مسيرات العودة الكبرى اليوم من كلّ أرض يقف عليها الفلسطيني، إلّا تأكيدًا على حقنا في القدس وتمسكنا بحق العودة إلى أرضنا في فلسطين التاريخية إن عاجلًا أو آجلًا.
خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد