تحقيق: أوس يعقوب
سال حبر كثير في الشهور الأخيرة عن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو ما أطلق عليه "صفقة القرن" التي وضعت بالتعاون بين مستشاري ترامب ومتنفذين من حزب الليكود الحاكم في الكيان الصهيوني، والتي أُعلن في واشنطن قبل أيام أنّ الإدارة الأمريكية تعتزم طرحها بعد انقضاء شهر رمضان (منتصف أو أواخر حزيران/ يونيو الجاري)، والتي يرى الفلسطينيون أنّها ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية وشطب قضيتي القدس واللاجئين وإنهاء حق العودة ومنع قيام الدولة الفلسطينية.
للوقوف على مخاطر هذه الصفقة المشبوهة على القضية الفلسطينية، خاصة قضايا الوضع النهائي في المفاوضات الجارية منذ ما يزيد على ربع قرن بين منظمة التحرير و"إسرائيل"، تحدث موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين مع عدد من الكتّاب والمحللين السياسيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة والشتات، ليكشفوا لنا عن هذه المخاطر، وكان أن سألناهم عن المطلوب فلسطينيًا من قبل المنظمة والسلطة وكافة فصائل العمل الوطني والإسلامي لمواجهة هذا المشروع التصفوي؟ فكان هذا التحقيق:
الكاتب والمحلل السياسي الدكتور إبراهيم أبراش (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزّة) يقول:
"صفقة القرن"، تسوية أمر واقع لن تنهي الصراع.
إعلان الإدارة الأمريكية عن جهوزية ما تسميه "صفقة القرن" أو "صفقة العصر" والإعلان عنها بعد شهر رمضان يضرب بالصميم مرجعيات عملية التسوية التي بدأت مع مؤتمر مدريد 1991 كما تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية ذات الشأن، وخصوصًا ملفات ثلاثة أساسية: القدس، اللاجئين، الدولة المستقلة على حدود 67، وهي القضايا التي كان الفلسطينيون يأملون أن تكون من القضايا التي تُبحث في مفاوضات الوضع النهائي.
مع أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أشار لـ"صفقة القرن" منذ حملته الانتخابية وتم تسريب بعض عناصرها إلا أنه تأخر في طرحها والإعلان عنها رسميًا، ومن المؤكد لو أن الرئيس الأمريكي ترامب وجد تجاوبًا من القيادة الفلسطينية لتم الإعلان عن الصفقة، إلا أن الرفض الفلسطيني الرسمي والشعبي حتى الآن والتحفظ من أغلبية الدول العربية وحتى الأجنبية على الصفقة - لأنها تتعارض مع القرارات الدولية حول الصراع كما تتعارض مع مرجعيات التسوية - دفع ترامب ليس للتراجع عن الصفقة بل تغيير آلية تنفيذها وتمريرها، حيث وبنصيحة إسرائيلية رأى أن سياسة فرض الأمر الواقع وتنفيذ بنود الصفقة خطوة خطوة وامتصاص ردود الفعل بعد كلّ خطوة كما جرى بشأن القدس واللاجئين والتراجع عن حلّ الدولتين هي الطريقة الأفضل في التعامل مع بيئة غير متوافقة مع السياسة الأمريكية والإسرائيلية.
مخاوف جدية على حق العودة
يتابع الدكتور أبراش: إن الاحتمالات المتوقعة بعد طرح الصفقة رسميًا:
أولًا: أن تفرض واشنطن "صفقة القرن" وتقوم إسرائيل بما عليها من استحقاقات بمقتضاها دون موافقة أيّ طرف فلسطيني، وفي هذه الحالة فإن هذه الصفقة أو التسوية لن تنهي الصراع أو تحقق السلام حتى وإن شاركت فيها أطراف عربية، وهذا سيُبقي بيد الفلسطينيين الحق في الاستمرار بنضالهم.
ثانيًا: أن يوافق طرف فلسطيني على التعامل مع الصفقة وهذا سيؤدي لإسقاط حق العودة والحق في القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، وفي هذه الحالة أيضًا لن ينتهي الصراع لأن الطرف الفلسطيني الذي سيوافق إما أن تكون حركة حماس وهي لا تمثل الشعب الفلسطيني، أو منظمة التحرير وفي هذه الحالة ستفقد أهليتها لتمثيل الشعب الفلسطيني، الأمر الذي سيدفع غالبية الفلسطينيين لتأسيس منظمة تحرير جديدة أو كيان سياسي جديد يمثل حالة الرفض لتسوية الأمر الواقع.
وفي الختام فإنّ أيّة تسوية جديدة سواء كانت صفقة القرن أو غيرها لن تنهي الصراع وسيكون مصيرها الفشل.
زياد عبد الفتاح، الرئيس الأسبق للهيئة العامة للاستعلامات ولوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) يؤكد :
أن فكرة "صفقة القرن" ليست وليدة اللحظة، إنما هي مجموعة أفكار، تقلَّبت عبر السنوات في أذهان الكثيرين من المنظِّرين والمحللين السياسيين الأمريكيين واليهود، ودارت في أروقة مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة بشكل خاص، وتم تداولها في بريطانيا، وتمّت قراءتُها في العديد من الجامعات ومعاهد الدراسات الغربية، التي تعمل جاهدة وبوتيرة عالية لاغتيال الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي بما يخدم إسرائيل ويحقق لها أمنًا وسلامًا وبقاءً لا يتزعزع، فوق أرض فلسطين التاريخية، تكون فيها دولة يهودية خالصة لا يتصل بها أو يعيش فوقها أو يُواطنها سوى اليهود، الذين ينحدرون من سلالات يصفونها بالنّقاءِ والتفوق والقدرة على البقاء والهيمنة الغاشمة، التي تضمن لهم الدوام والسيطرة، وانطلاقًا من رؤية دينية توراتية تصفهم بشعب الله المختار وتُصورُهم على أنهم خلفاء على هذه الأرض وامتداداتها! على أننا لن نخوض في تفاصيل تبدو ضبابية حتى اللحظة في "صفقة القرن"، التي تسربت بعض ملامحها في الأدبيات السياسية الأميريكية، وعلى نحو أقل صراحة في الأدبيات الإسرائيلية،. فما يجرى من تسريبات ترتكز على أفكار متناثرة لا تشكِّل مشروعًا واضح المعالم.
لقد ربط بعض المحللين ما أعلنه في وقت سابق ولي العهد السعودي من (رؤية 2030) وعزمه إنشاء مدينه "نيوم" التي تتجاوز في مساحتها أقل قليلًا من حجم لبنان، وتطل على البحر الأحمر والمتوسط والتي تحتوي على مطار ضخم وميناء، ربطوا بينه وبين "صفقة القرن" الأميريكية الإسرائيلية، التي يتصدى لتنفيذها الرئيس ترامب بكلّ حزمٍ وحماس، والتي ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، وشطب كلّ حق للعودة ومنع قيام الدولة الفلسطينية وتقسيم الضفة إلى كنتونات صغيرة، يتمتع كلّ منها بحكم ذاتي منقوص السيادة، فضلًا عن ابتلاع المدينة المقدسة.
لقد مهّدت إسرائيل معتمدة على الخطة الأمريكية لتنفيذ "صفقة القرن"، التي شارك في رسم خطوطها اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة والمنظِّرون اليهود والموالون للصهيونية، مهَّدت للصفقة بطرح دولة يهودية خالصة، ما يعني ضِمنًا تهجير من هو ليس بيهودي، وطلبت من السلطة الوطنية الاعتراف بذلك كشرط، للمضي قدُمًا في المفاوضات!
ولقد رفضت السلطة "يهودية الدولة" رفضًا باتًّا ومعها كلّ الطروحات الأخرى التي تشكِّل خطرًا على الفلسطينيين، وعلى قضيتهم وحقوقهم التاريخية المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
إن الموقف الفلسطيني الراسخ في رفضه ليس "يهودية الدولة" وحسب، وإنّما أيضًا أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل. كلّ هذا يجعل من "صفقة القرن" وهمًا وسَرابًا.
يبقى بعد ذلك أن نشير إلى أن المحاولات ما زالت محمومة، ليس في واشنطن وتل أبيب وحسب، وإنما في العواصم العربية التي تراهن بكلّ ما لديها لتمرير الصفقة، التي تحتاج بالضرورة إلى توقيع فلسطيني أو فلسطينيين .
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي معين الطاهر يقول :
انهار مشروع ترامب بمجرد اعترافه بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وتجلى ذلك الفشل في التصويت الذي تم في مجلس الأمن، والهيئة العامة للأمم المتحدة، والمؤتمر الإسلامي. كذلك في تلك التظاهرات العارمة التي اجتاحت العالم بأسره.
وفي ما يحدث الآن عبر مسيرات العودة الكبرى التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى مدنه وقراه. أجمع الكلّ الفلسطيني على رفض هذا المشروع، السلطة والفصائل، لكن لم يتم إتخاذ خطوات عملية باتجاه وأده في مهده، ولم يتم استغلال اللحظة التاريخية للهبة الجماهيرية ووقوف العالم بأسره معنا وللعزلة التي عانت منها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، ولحالة الإرباك التي حلت بالموقف العربي الرسمي الساعي لإدخال العدو طرفًا في المعادلات الإقليمية والتطبيع معه، كان بالإمكان جعل تلك اللحظة بداية لتغيير كبير في المسار أضاعتها القيادات العاجزة والمرتبكة.
"صفقة القرن" ليست مشروعًا للتفاوض كما توهم البعض، بقدر ما هي محاولة أمريكية صهيونية لفرض أمر واقع، جوهره حلّ عربي مع العدو الصهيوني يعيد له دوره كشرطي في المنطقة، ومن خلال هذا الحلّ تفتح كوة صغيرة لـ"سلام" مع الفلسطينيين يكرس الاستيطان ويضم القدس والمستوطنات ولا يسمح إلا بأقل من حكم ذاتي محدود ومتناثر الأجزاء على أقل من 22% من مساحة الضفة الغربية وينهي قضية اللاجئين وحق العودة. هو حلّ يُراد فرضه على الفلسطينيين رغمًا عنهم وبدون موافقتهم.
صفقة القرن نظام أبرتايد فاق نظيره في جنوب إفريقيا
"صفقة القرن" ستكون الوجه الآخر للاتجاه السائد في الكيان الصهيوني حيث يلتقي اليمين الصهيوني المتطرف مع اليمين الصهيوني الأمريكي لفرض دولة العدو ككيان يمارس كلّ أشكال القمع والاحتلال والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة، سواء كان ذلك في فلسطين المحتلة 1948، أو الضفة والقطاع، أو الشتات حيث طرد الشعب الفلسطيني من أرضه ويمنع من العودة إليها.
إنه نظام أبرتايد فاق ذلك الذي عرفته جنوب أفريقيا ولم يعرف العالم مثيلًا له، وفي هذا بذور فنائه باتجاه تفكيك الكيان الصهيوني كاملًا من فوق أرضنا المحتلة وتحقيق حق العودة.
أمام تمسك العدو الصهيوني بروايته التوراتية التاريخية، وأمام الأفكار الصهيونية، لا يجوز تقديم أيّ تنازل، لأنه وكما علمتنا التجارب فإنّ أيّ تنازل طفيف تحت شعارات المرونة والواقع ستقودنا إلى تنازلات لا نهاية لها.
في مواجهة "صفقة القرن" علينا أن نتمسك بروايتنا التاريخية، وبثوابتنا الوطنية، وأن ندرك أنّ العدو الصهيوني قد بدأ بالانحدار، وأنّ النصر حتمًا قادم.
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي هاني المصري (المدير العام لمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية "مسارات") يقول:
كانت قضية اللاجئين، وفي القلب منها حق العودة، أساس القضية الفلسطينية وجوهرها، على اعتبارها الشاهد على استمرار النكبة الفلسطينية منذ سبعين عامًا وحتى الآن، ومع ذلك لم يأخذ الاهتمام بقضية اللاجئين شكلًا واحدًا، ولم تكن مكانتها في سلم الأولويات بنفس الوزن في كلّ المراحل.
فمثلًا بُعيد النكبة في أيّار/ مايو ١٩٤٨ تم التعامل معها كقضية إنسانية، وحتى في الفترة التي تلت انطلاقة الثورة المعاصرة طغى شعار وهدف التحرير على شعار وهدف حق العودة، وإن كان ذلك لا يعود إلى تراجع الاهتمام به، وإنما لأنّ الأمل كان كبيرًا جدًا بإمكانية تحقيق التحرير. وفي هذه الحالة تكون العودة تحصيلًا حاصلًا. بعد طرح برنامج إقامة السلطة الوطنية العام ١٩٧٤، وتبلوره إلى برنامج الدولة الفلسطينية، كان حق العودة ركنًا من أركان هذا البرنامج الذي تضمن أيضًا حق تقرير المصير وإنجاز الحرية والاستقلال. وتراجع الاهتمام بحق العودة بعد الاعتراف الكارثي بحق إسرائيل في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بمنظمة التحرير وليس بالدولة الفلسطينية، في اتّفاق أوسلو، لا سيما في ظل وهم القيادة الفلسطينية بأنّ الأولوية لإقامة الدولة، وتطور الأمر سلبًا لدرجة الاستعداد للفصل ما بين إقامة الدولة وحق العودة، إلى أن انتهينا إلى استعداد فلسطيني رسمي للمقايضة بينهما، وهذا عبر عن نفسه ولا يزال من خلال تأييد "مبادرة السلام العربية"، التي تنص على عبارة تتحدث عن حلّ عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين، فكيف سيكون عادلًا ومتفقًا عليه في نفس الوقت، فإما هذه أو تلك.
إنّ هذا الأمر يعكس الاستعداد للمساومة على حق العودة، لأنّ الحقوق لا يتم التفاوض عليها، وإنما التفاوض لتطبيقها. كما أنّ إسرائيل المطالَبة بالتفاوض للاتّفاق على الحلّ العادل، ترفض كلّيًا الاعتراف بحق العودة، بل تسعى لتصفيتها ضمن مساعيها الشاملة لتصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها.
إنّ فشل اتّفاق أوسلو ورفض إسرائيل للمبادرة العربية وسعيها لتغييرها من خلال السعي لإنجاز التطبيع مع إسرائيل أولًا وأخيرًا، مهّد لإعادة الوحدة ما بين القضية الفلسطينية والأرض والشعب التي فصلت عن بعضها في "أوسلو" وما بعده، ما يفتح الأبواب على مصاريعها لإعادة طرح حق العودة بقوة.
في هذا السياق، نضع ما قدمته مسيرات العودة التي اندلعت أساسًا في قطاع غزّة، ويمكن أن تعمم بشكل واسع لتشمل مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، كونها أعادت القضية الفلسطينية إلى أصلها، وكانت بسلميتها وجماهيريتها الواسعة والوحدة الميدانية التي جسدتها، بمشاركة مختلف القوى والقطاعات، إبداعًا فلسطينيًا جديدًا يدل على أنّ الشعب الفلسطيني، هو فعلًا، شعب الجبارين الذي لن يتخلى عن حقوقه مهما طال الزمن وبلغت التضحيات.
لقد أعادت مسيرة العودة الثقة للشعب الفلسطيني وطرحت حق العودة بقوة على أجندة العالم كلّه، والأهم على الأجندة الإسرائيلية، وأكدت من جديد على مقولة "لا يضيع حق إذا كان وراءه من يطالب به".
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي عبد الغني سلامه يقول:
لا أظن أنّ لدى إدارة ترامب مبادرة سياسية متكاملة واضحة ومحددة في نقاط، من شأنها إنهاء الصراع العربي الصهيوني، بحيث يمكن تسميتها "صفقة القرن"، وكلّ الحديث بشأنها إما تكهنات، أو تسريبات صحافية لأغراض سياسية، غالبًا ما تقع في إطار الحرب النفسية.. ومع ذلك، هنالك خطوط عامة تحدد سياسة البيت الأبيض الجديدة، أهمها أنّ القضية الفلسطينية لم تعد تحظَ بأولوية على جدول أعمال الإدارة الأميركية الجديدة، التي انقلبت على السياسات الأمريكية التقليدية، من خلال المحددات التالية: عدم اعتبار المستوطنات الإسرائيلية عائقًا أمام "السلام"، (الامتناع عن إدانة بنائها)، اعتبار القدس عاصمة لـ"إسرائيل" (تم نقل السفارة الأمريكية إليها)، شطب حق العودة (وقد بدأت بالفعل محاولات إنهاء وكالة الأونروا)، عدم اعتبار حلّ الدولتين شرطًا لتحقيق "السلام"، وقد صرح ترامب بأنه سيدعم أيّ حلّ يتفق عليه الطرفان، وهذه أكبر خدعة إعلامية، لأنها تعني عدم الضغط على إسرائيل بأيّ حال، معارضة وعرقلة أيّة خطوات فلسطينية، مثل التوجه للمحاكم الدولية، أو للأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية. ما تريده أمريكا هو تحقيق حلّ شامل ومتعدد الأطراف للصراع العربي/الإسرائيلي، بدلًا من حلّ ثنائي للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، أيّ تحويل التسوية مع الفلسطينيين إلى التسوية مع بعض الدول العربية، وتطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل، ومن ثمّ حلّ المسألة الفلسطينية في الإطار العربي، أي غزّة مع مصر، وما تبقى من الضفة مع الًاردن، في إطار كونفدرالي مثلًا، أو بإقامة دولة في غزّة مع ضم مساحة من سيناء، وترك الضفة مع الأردن و/أو إسرائيل في إطار كونفدرالي.
باختصار، ما هو مطروح تسوية إقليمية ذات بعد اقتصادي وسياسي وأمني، هدفها تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، هذا يضع القيادة الفلسطينية في موقف بالغ الصعوية؛ فإما القبول بما هو مطروح، أو بقاء الحال على ما هو عليه؛ إلى حين تحسن موازين القوى نسبيًا، بتغيير المعادلات دوليًا وإقليميًا وعربيًا، لعلمها أنّ تكلفة الرفض باهظة جدًا.
"صفقة القرن"، كانت ستمر، بتهديد أمريكي، وضغط عربي، وتواطؤ دولي، بيد أنّ موقف القيادة الفلسطينية الرافض أدى إلى عرقلتها، وإحباطها، ولو إلى حين.. وإزاء ذلك، على الفلسطينيين تصعيد المقاومة الشعبية، ومواصلة الهجوم السياسي والدبلوماسي والقانوني في الساحة الدولية.
الباحث والإعلامي مهند عبد الحميد يعتبر أنه
إذا كان الهدف المركزي لـ"صفقة القرن" هو تصفية القضية الفلسطينية، عبر شطب قضية اللاجئين، وضم مدينة القدس، وتثبيت الاحتلال والاستيطان، ومنع حق تقرير المصير، ومنع إقامة دولة مستقلة، وتفكيك مكونات الشعب الفلسطيني، من خلال فصل الداخل عن الخارج، وفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية، وإبطال مفعول تمثيل منظمة التحرير للشعب في مختلف أماكن تواجده.
إذا كان المشروع الأمريكي - الإسرائيلي الكولونيالي بهذا والوضوح والتحدد، وبهذا المستوى من غطرسة القوة، يصبح من الطبيعي وانطلاقًا من مصلحة الشعب الفلسطيني الوطنية والوجودية، وانطلاقًا من المصالح المتناقضة، الأخذ بعكس أهداف ذلك المشروع الأسود، والعمل على إبطال وإفشال كلّ حلقة من حلقاته.
إنّ إحباط المشروع "الصفقة" يضع كلّ القوى السياسية على محك الاستجابة لنوع مختلف من العمل غير المألوف ومن أهم الاستجابات:
أولًا: عقد مؤتمر وطني دوري للاجئين تنبثق عنه، استراتيجية وطنية ذات أهداف محددة عامة وخاصة بكلّ التجمعات وخاصة المنكوبة في سوريا ولبنان والعراق وليبيا، وهيئة متابعة مستقلة ولجان فرعية لتنفيذ الاستراتيجية، وإدارة النشاط ومتابعة المهام المناطة بها.
ثانيًا: عقد مجلس وطني بمشاركة كلّ القوى السياسية، باعتماد التمثيل النسبي للقوى من كلّ ألوان الطيف السياسي ومن الفئات المستقلة والكفاءات وجهات الاختصاص في المجالات المختلفة، على قاعدة الالتزام بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك قرارات الشرعية الدولية، والأهداف الوطنية المشروعة والمقرة.
ثالثًا: العمل على نيل اعتراف دولي صريح بدولة فلسطين تحت الاحتلال على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967، والدخول في كلّ المنظمات والاتّفاقات الدولية، وإعادة النظر في اتّفاق اوسلو واتّفاق باريس وما ترتب عليها من تنسيق أمني واعتراف من طرف واحد.
رابعًا: وضع حد للانقسام ورفض كلّ محاولة لمقايضة الاعتراف الإسرائيلي والأمريكي بكيانات فئوية في غزّة وفي الضفة بوظائف أمنية مموهة باستجابات إنسانية.
خامسًا: مناهضة التحالف والتعاون الرسمي بين عدد من الدول العربية ودولة الاحتلال وفضح تماهي تلك الدول مع "صفقة ترامب"، وتعزيز تحالف الشعب الفلسطيني مع الشعوب العربية والنخب الديمقراطية والثقافية العربية المستقلة.
سادسًا: كلّ المهمات السابقة تكون تحت مظلة الشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير مع التأكيد أنّ كلّ تغيير وتطوير وتعديل -وهو مهم وضروري وعاجل- يتم من خلال الشرعية.
سال حبر كثير في الشهور الأخيرة عن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو ما أطلق عليه "صفقة القرن" التي وضعت بالتعاون بين مستشاري ترامب ومتنفذين من حزب الليكود الحاكم في الكيان الصهيوني، والتي أُعلن في واشنطن قبل أيام أنّ الإدارة الأمريكية تعتزم طرحها بعد انقضاء شهر رمضان (منتصف أو أواخر حزيران/ يونيو الجاري)، والتي يرى الفلسطينيون أنّها ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية وشطب قضيتي القدس واللاجئين وإنهاء حق العودة ومنع قيام الدولة الفلسطينية.
للوقوف على مخاطر هذه الصفقة المشبوهة على القضية الفلسطينية، خاصة قضايا الوضع النهائي في المفاوضات الجارية منذ ما يزيد على ربع قرن بين منظمة التحرير و"إسرائيل"، تحدث موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين مع عدد من الكتّاب والمحللين السياسيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة والشتات، ليكشفوا لنا عن هذه المخاطر، وكان أن سألناهم عن المطلوب فلسطينيًا من قبل المنظمة والسلطة وكافة فصائل العمل الوطني والإسلامي لمواجهة هذا المشروع التصفوي؟ فكان هذا التحقيق:
الصفقة تتعارض مع القرارات الدولية
الكاتب والمحلل السياسي الدكتور إبراهيم أبراش (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزّة) يقول:
"صفقة القرن"، تسوية أمر واقع لن تنهي الصراع.
إعلان الإدارة الأمريكية عن جهوزية ما تسميه "صفقة القرن" أو "صفقة العصر" والإعلان عنها بعد شهر رمضان يضرب بالصميم مرجعيات عملية التسوية التي بدأت مع مؤتمر مدريد 1991 كما تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية ذات الشأن، وخصوصًا ملفات ثلاثة أساسية: القدس، اللاجئين، الدولة المستقلة على حدود 67، وهي القضايا التي كان الفلسطينيون يأملون أن تكون من القضايا التي تُبحث في مفاوضات الوضع النهائي.
مع أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أشار لـ"صفقة القرن" منذ حملته الانتخابية وتم تسريب بعض عناصرها إلا أنه تأخر في طرحها والإعلان عنها رسميًا، ومن المؤكد لو أن الرئيس الأمريكي ترامب وجد تجاوبًا من القيادة الفلسطينية لتم الإعلان عن الصفقة، إلا أن الرفض الفلسطيني الرسمي والشعبي حتى الآن والتحفظ من أغلبية الدول العربية وحتى الأجنبية على الصفقة - لأنها تتعارض مع القرارات الدولية حول الصراع كما تتعارض مع مرجعيات التسوية - دفع ترامب ليس للتراجع عن الصفقة بل تغيير آلية تنفيذها وتمريرها، حيث وبنصيحة إسرائيلية رأى أن سياسة فرض الأمر الواقع وتنفيذ بنود الصفقة خطوة خطوة وامتصاص ردود الفعل بعد كلّ خطوة كما جرى بشأن القدس واللاجئين والتراجع عن حلّ الدولتين هي الطريقة الأفضل في التعامل مع بيئة غير متوافقة مع السياسة الأمريكية والإسرائيلية.
مخاوف جدية على حق العودة
يتابع الدكتور أبراش: إن الاحتمالات المتوقعة بعد طرح الصفقة رسميًا:
أولًا: أن تفرض واشنطن "صفقة القرن" وتقوم إسرائيل بما عليها من استحقاقات بمقتضاها دون موافقة أيّ طرف فلسطيني، وفي هذه الحالة فإن هذه الصفقة أو التسوية لن تنهي الصراع أو تحقق السلام حتى وإن شاركت فيها أطراف عربية، وهذا سيُبقي بيد الفلسطينيين الحق في الاستمرار بنضالهم.
ثانيًا: أن يوافق طرف فلسطيني على التعامل مع الصفقة وهذا سيؤدي لإسقاط حق العودة والحق في القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، وفي هذه الحالة أيضًا لن ينتهي الصراع لأن الطرف الفلسطيني الذي سيوافق إما أن تكون حركة حماس وهي لا تمثل الشعب الفلسطيني، أو منظمة التحرير وفي هذه الحالة ستفقد أهليتها لتمثيل الشعب الفلسطيني، الأمر الذي سيدفع غالبية الفلسطينيين لتأسيس منظمة تحرير جديدة أو كيان سياسي جديد يمثل حالة الرفض لتسوية الأمر الواقع.
وفي الختام فإنّ أيّة تسوية جديدة سواء كانت صفقة القرن أو غيرها لن تنهي الصراع وسيكون مصيرها الفشل.
"صفقة" شطب حق العودة وابتلاع القدس
زياد عبد الفتاح، الرئيس الأسبق للهيئة العامة للاستعلامات ولوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) يؤكد :
أن فكرة "صفقة القرن" ليست وليدة اللحظة، إنما هي مجموعة أفكار، تقلَّبت عبر السنوات في أذهان الكثيرين من المنظِّرين والمحللين السياسيين الأمريكيين واليهود، ودارت في أروقة مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة بشكل خاص، وتم تداولها في بريطانيا، وتمّت قراءتُها في العديد من الجامعات ومعاهد الدراسات الغربية، التي تعمل جاهدة وبوتيرة عالية لاغتيال الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي بما يخدم إسرائيل ويحقق لها أمنًا وسلامًا وبقاءً لا يتزعزع، فوق أرض فلسطين التاريخية، تكون فيها دولة يهودية خالصة لا يتصل بها أو يعيش فوقها أو يُواطنها سوى اليهود، الذين ينحدرون من سلالات يصفونها بالنّقاءِ والتفوق والقدرة على البقاء والهيمنة الغاشمة، التي تضمن لهم الدوام والسيطرة، وانطلاقًا من رؤية دينية توراتية تصفهم بشعب الله المختار وتُصورُهم على أنهم خلفاء على هذه الأرض وامتداداتها! على أننا لن نخوض في تفاصيل تبدو ضبابية حتى اللحظة في "صفقة القرن"، التي تسربت بعض ملامحها في الأدبيات السياسية الأميريكية، وعلى نحو أقل صراحة في الأدبيات الإسرائيلية،. فما يجرى من تسريبات ترتكز على أفكار متناثرة لا تشكِّل مشروعًا واضح المعالم.
لقد ربط بعض المحللين ما أعلنه في وقت سابق ولي العهد السعودي من (رؤية 2030) وعزمه إنشاء مدينه "نيوم" التي تتجاوز في مساحتها أقل قليلًا من حجم لبنان، وتطل على البحر الأحمر والمتوسط والتي تحتوي على مطار ضخم وميناء، ربطوا بينه وبين "صفقة القرن" الأميريكية الإسرائيلية، التي يتصدى لتنفيذها الرئيس ترامب بكلّ حزمٍ وحماس، والتي ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، وشطب كلّ حق للعودة ومنع قيام الدولة الفلسطينية وتقسيم الضفة إلى كنتونات صغيرة، يتمتع كلّ منها بحكم ذاتي منقوص السيادة، فضلًا عن ابتلاع المدينة المقدسة.
لقد مهّدت إسرائيل معتمدة على الخطة الأمريكية لتنفيذ "صفقة القرن"، التي شارك في رسم خطوطها اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة والمنظِّرون اليهود والموالون للصهيونية، مهَّدت للصفقة بطرح دولة يهودية خالصة، ما يعني ضِمنًا تهجير من هو ليس بيهودي، وطلبت من السلطة الوطنية الاعتراف بذلك كشرط، للمضي قدُمًا في المفاوضات!
ولقد رفضت السلطة "يهودية الدولة" رفضًا باتًّا ومعها كلّ الطروحات الأخرى التي تشكِّل خطرًا على الفلسطينيين، وعلى قضيتهم وحقوقهم التاريخية المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
إن الموقف الفلسطيني الراسخ في رفضه ليس "يهودية الدولة" وحسب، وإنّما أيضًا أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل. كلّ هذا يجعل من "صفقة القرن" وهمًا وسَرابًا.
يبقى بعد ذلك أن نشير إلى أن المحاولات ما زالت محمومة، ليس في واشنطن وتل أبيب وحسب، وإنما في العواصم العربية التي تراهن بكلّ ما لديها لتمرير الصفقة، التي تحتاج بالضرورة إلى توقيع فلسطيني أو فلسطينيين .
قيادات عاجزة مرتكبة لم تتخذ خطوات عملية لوأد مشروع الصفقة في مهده
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي معين الطاهر يقول :
انهار مشروع ترامب بمجرد اعترافه بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وتجلى ذلك الفشل في التصويت الذي تم في مجلس الأمن، والهيئة العامة للأمم المتحدة، والمؤتمر الإسلامي. كذلك في تلك التظاهرات العارمة التي اجتاحت العالم بأسره.
وفي ما يحدث الآن عبر مسيرات العودة الكبرى التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى مدنه وقراه. أجمع الكلّ الفلسطيني على رفض هذا المشروع، السلطة والفصائل، لكن لم يتم إتخاذ خطوات عملية باتجاه وأده في مهده، ولم يتم استغلال اللحظة التاريخية للهبة الجماهيرية ووقوف العالم بأسره معنا وللعزلة التي عانت منها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، ولحالة الإرباك التي حلت بالموقف العربي الرسمي الساعي لإدخال العدو طرفًا في المعادلات الإقليمية والتطبيع معه، كان بالإمكان جعل تلك اللحظة بداية لتغيير كبير في المسار أضاعتها القيادات العاجزة والمرتبكة.
"صفقة القرن" ليست مشروعًا للتفاوض كما توهم البعض، بقدر ما هي محاولة أمريكية صهيونية لفرض أمر واقع، جوهره حلّ عربي مع العدو الصهيوني يعيد له دوره كشرطي في المنطقة، ومن خلال هذا الحلّ تفتح كوة صغيرة لـ"سلام" مع الفلسطينيين يكرس الاستيطان ويضم القدس والمستوطنات ولا يسمح إلا بأقل من حكم ذاتي محدود ومتناثر الأجزاء على أقل من 22% من مساحة الضفة الغربية وينهي قضية اللاجئين وحق العودة. هو حلّ يُراد فرضه على الفلسطينيين رغمًا عنهم وبدون موافقتهم.
صفقة القرن نظام أبرتايد فاق نظيره في جنوب إفريقيا
"صفقة القرن" ستكون الوجه الآخر للاتجاه السائد في الكيان الصهيوني حيث يلتقي اليمين الصهيوني المتطرف مع اليمين الصهيوني الأمريكي لفرض دولة العدو ككيان يمارس كلّ أشكال القمع والاحتلال والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة، سواء كان ذلك في فلسطين المحتلة 1948، أو الضفة والقطاع، أو الشتات حيث طرد الشعب الفلسطيني من أرضه ويمنع من العودة إليها.
إنه نظام أبرتايد فاق ذلك الذي عرفته جنوب أفريقيا ولم يعرف العالم مثيلًا له، وفي هذا بذور فنائه باتجاه تفكيك الكيان الصهيوني كاملًا من فوق أرضنا المحتلة وتحقيق حق العودة.
أمام تمسك العدو الصهيوني بروايته التوراتية التاريخية، وأمام الأفكار الصهيونية، لا يجوز تقديم أيّ تنازل، لأنه وكما علمتنا التجارب فإنّ أيّ تنازل طفيف تحت شعارات المرونة والواقع ستقودنا إلى تنازلات لا نهاية لها.
في مواجهة "صفقة القرن" علينا أن نتمسك بروايتنا التاريخية، وبثوابتنا الوطنية، وأن ندرك أنّ العدو الصهيوني قد بدأ بالانحدار، وأنّ النصر حتمًا قادم.
حق العودة ينهض من جديد
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي هاني المصري (المدير العام لمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية "مسارات") يقول:
كانت قضية اللاجئين، وفي القلب منها حق العودة، أساس القضية الفلسطينية وجوهرها، على اعتبارها الشاهد على استمرار النكبة الفلسطينية منذ سبعين عامًا وحتى الآن، ومع ذلك لم يأخذ الاهتمام بقضية اللاجئين شكلًا واحدًا، ولم تكن مكانتها في سلم الأولويات بنفس الوزن في كلّ المراحل.
فمثلًا بُعيد النكبة في أيّار/ مايو ١٩٤٨ تم التعامل معها كقضية إنسانية، وحتى في الفترة التي تلت انطلاقة الثورة المعاصرة طغى شعار وهدف التحرير على شعار وهدف حق العودة، وإن كان ذلك لا يعود إلى تراجع الاهتمام به، وإنما لأنّ الأمل كان كبيرًا جدًا بإمكانية تحقيق التحرير. وفي هذه الحالة تكون العودة تحصيلًا حاصلًا. بعد طرح برنامج إقامة السلطة الوطنية العام ١٩٧٤، وتبلوره إلى برنامج الدولة الفلسطينية، كان حق العودة ركنًا من أركان هذا البرنامج الذي تضمن أيضًا حق تقرير المصير وإنجاز الحرية والاستقلال. وتراجع الاهتمام بحق العودة بعد الاعتراف الكارثي بحق إسرائيل في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بمنظمة التحرير وليس بالدولة الفلسطينية، في اتّفاق أوسلو، لا سيما في ظل وهم القيادة الفلسطينية بأنّ الأولوية لإقامة الدولة، وتطور الأمر سلبًا لدرجة الاستعداد للفصل ما بين إقامة الدولة وحق العودة، إلى أن انتهينا إلى استعداد فلسطيني رسمي للمقايضة بينهما، وهذا عبر عن نفسه ولا يزال من خلال تأييد "مبادرة السلام العربية"، التي تنص على عبارة تتحدث عن حلّ عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين، فكيف سيكون عادلًا ومتفقًا عليه في نفس الوقت، فإما هذه أو تلك.
إنّ هذا الأمر يعكس الاستعداد للمساومة على حق العودة، لأنّ الحقوق لا يتم التفاوض عليها، وإنما التفاوض لتطبيقها. كما أنّ إسرائيل المطالَبة بالتفاوض للاتّفاق على الحلّ العادل، ترفض كلّيًا الاعتراف بحق العودة، بل تسعى لتصفيتها ضمن مساعيها الشاملة لتصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها.
إنّ فشل اتّفاق أوسلو ورفض إسرائيل للمبادرة العربية وسعيها لتغييرها من خلال السعي لإنجاز التطبيع مع إسرائيل أولًا وأخيرًا، مهّد لإعادة الوحدة ما بين القضية الفلسطينية والأرض والشعب التي فصلت عن بعضها في "أوسلو" وما بعده، ما يفتح الأبواب على مصاريعها لإعادة طرح حق العودة بقوة.
في هذا السياق، نضع ما قدمته مسيرات العودة التي اندلعت أساسًا في قطاع غزّة، ويمكن أن تعمم بشكل واسع لتشمل مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، كونها أعادت القضية الفلسطينية إلى أصلها، وكانت بسلميتها وجماهيريتها الواسعة والوحدة الميدانية التي جسدتها، بمشاركة مختلف القوى والقطاعات، إبداعًا فلسطينيًا جديدًا يدل على أنّ الشعب الفلسطيني، هو فعلًا، شعب الجبارين الذي لن يتخلى عن حقوقه مهما طال الزمن وبلغت التضحيات.
لقد أعادت مسيرة العودة الثقة للشعب الفلسطيني وطرحت حق العودة بقوة على أجندة العالم كلّه، والأهم على الأجندة الإسرائيلية، وأكدت من جديد على مقولة "لا يضيع حق إذا كان وراءه من يطالب به".
تحويل للتسوية مع الفلسطينيين إلى تسوية مع بعض الدول العربية
الكاتب الصحافي والمحلل السياسي عبد الغني سلامه يقول:
لا أظن أنّ لدى إدارة ترامب مبادرة سياسية متكاملة واضحة ومحددة في نقاط، من شأنها إنهاء الصراع العربي الصهيوني، بحيث يمكن تسميتها "صفقة القرن"، وكلّ الحديث بشأنها إما تكهنات، أو تسريبات صحافية لأغراض سياسية، غالبًا ما تقع في إطار الحرب النفسية.. ومع ذلك، هنالك خطوط عامة تحدد سياسة البيت الأبيض الجديدة، أهمها أنّ القضية الفلسطينية لم تعد تحظَ بأولوية على جدول أعمال الإدارة الأميركية الجديدة، التي انقلبت على السياسات الأمريكية التقليدية، من خلال المحددات التالية: عدم اعتبار المستوطنات الإسرائيلية عائقًا أمام "السلام"، (الامتناع عن إدانة بنائها)، اعتبار القدس عاصمة لـ"إسرائيل" (تم نقل السفارة الأمريكية إليها)، شطب حق العودة (وقد بدأت بالفعل محاولات إنهاء وكالة الأونروا)، عدم اعتبار حلّ الدولتين شرطًا لتحقيق "السلام"، وقد صرح ترامب بأنه سيدعم أيّ حلّ يتفق عليه الطرفان، وهذه أكبر خدعة إعلامية، لأنها تعني عدم الضغط على إسرائيل بأيّ حال، معارضة وعرقلة أيّة خطوات فلسطينية، مثل التوجه للمحاكم الدولية، أو للأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية. ما تريده أمريكا هو تحقيق حلّ شامل ومتعدد الأطراف للصراع العربي/الإسرائيلي، بدلًا من حلّ ثنائي للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، أيّ تحويل التسوية مع الفلسطينيين إلى التسوية مع بعض الدول العربية، وتطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل، ومن ثمّ حلّ المسألة الفلسطينية في الإطار العربي، أي غزّة مع مصر، وما تبقى من الضفة مع الًاردن، في إطار كونفدرالي مثلًا، أو بإقامة دولة في غزّة مع ضم مساحة من سيناء، وترك الضفة مع الأردن و/أو إسرائيل في إطار كونفدرالي.
باختصار، ما هو مطروح تسوية إقليمية ذات بعد اقتصادي وسياسي وأمني، هدفها تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، هذا يضع القيادة الفلسطينية في موقف بالغ الصعوية؛ فإما القبول بما هو مطروح، أو بقاء الحال على ما هو عليه؛ إلى حين تحسن موازين القوى نسبيًا، بتغيير المعادلات دوليًا وإقليميًا وعربيًا، لعلمها أنّ تكلفة الرفض باهظة جدًا.
"صفقة القرن"، كانت ستمر، بتهديد أمريكي، وضغط عربي، وتواطؤ دولي، بيد أنّ موقف القيادة الفلسطينية الرافض أدى إلى عرقلتها، وإحباطها، ولو إلى حين.. وإزاء ذلك، على الفلسطينيين تصعيد المقاومة الشعبية، ومواصلة الهجوم السياسي والدبلوماسي والقانوني في الساحة الدولية.
الكرة في ملعب منظمة التحرير
الباحث والإعلامي مهند عبد الحميد يعتبر أنه
إذا كان الهدف المركزي لـ"صفقة القرن" هو تصفية القضية الفلسطينية، عبر شطب قضية اللاجئين، وضم مدينة القدس، وتثبيت الاحتلال والاستيطان، ومنع حق تقرير المصير، ومنع إقامة دولة مستقلة، وتفكيك مكونات الشعب الفلسطيني، من خلال فصل الداخل عن الخارج، وفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية، وإبطال مفعول تمثيل منظمة التحرير للشعب في مختلف أماكن تواجده.
إذا كان المشروع الأمريكي - الإسرائيلي الكولونيالي بهذا والوضوح والتحدد، وبهذا المستوى من غطرسة القوة، يصبح من الطبيعي وانطلاقًا من مصلحة الشعب الفلسطيني الوطنية والوجودية، وانطلاقًا من المصالح المتناقضة، الأخذ بعكس أهداف ذلك المشروع الأسود، والعمل على إبطال وإفشال كلّ حلقة من حلقاته.
إنّ إحباط المشروع "الصفقة" يضع كلّ القوى السياسية على محك الاستجابة لنوع مختلف من العمل غير المألوف ومن أهم الاستجابات:
أولًا: عقد مؤتمر وطني دوري للاجئين تنبثق عنه، استراتيجية وطنية ذات أهداف محددة عامة وخاصة بكلّ التجمعات وخاصة المنكوبة في سوريا ولبنان والعراق وليبيا، وهيئة متابعة مستقلة ولجان فرعية لتنفيذ الاستراتيجية، وإدارة النشاط ومتابعة المهام المناطة بها.
ثانيًا: عقد مجلس وطني بمشاركة كلّ القوى السياسية، باعتماد التمثيل النسبي للقوى من كلّ ألوان الطيف السياسي ومن الفئات المستقلة والكفاءات وجهات الاختصاص في المجالات المختلفة، على قاعدة الالتزام بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك قرارات الشرعية الدولية، والأهداف الوطنية المشروعة والمقرة.
ثالثًا: العمل على نيل اعتراف دولي صريح بدولة فلسطين تحت الاحتلال على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967، والدخول في كلّ المنظمات والاتّفاقات الدولية، وإعادة النظر في اتّفاق اوسلو واتّفاق باريس وما ترتب عليها من تنسيق أمني واعتراف من طرف واحد.
رابعًا: وضع حد للانقسام ورفض كلّ محاولة لمقايضة الاعتراف الإسرائيلي والأمريكي بكيانات فئوية في غزّة وفي الضفة بوظائف أمنية مموهة باستجابات إنسانية.
خامسًا: مناهضة التحالف والتعاون الرسمي بين عدد من الدول العربية ودولة الاحتلال وفضح تماهي تلك الدول مع "صفقة ترامب"، وتعزيز تحالف الشعب الفلسطيني مع الشعوب العربية والنخب الديمقراطية والثقافية العربية المستقلة.
سادسًا: كلّ المهمات السابقة تكون تحت مظلة الشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير مع التأكيد أنّ كلّ تغيير وتطوير وتعديل -وهو مهم وضروري وعاجل- يتم من خلال الشرعية.
خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين