هنيدة غانم - مديرة مركز "مدار" الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية
المفاهيم كالبشر يصيبها الهرم وداء النسيان. تنبلج المفاهيم وتتولد من رحم اللحظة التاريخية وتتشكل كأداة لغوية تحال إلى مجموعة من الخصائص والسمات والعلامات وتصير دالتها وشيفرة معناها، في تشكلها هذا تقبض المفاهيم على مجمل المعاني وتضعها تحت مظلتها، وفي الخطاب العام تتحول المفاهيم إلى اسم شخصي للمركبات والحالات المجدولة فيها، ومع انبلاج المفهوم تغيب تفاصيل المركبات تدريجياً وتسكن باطن المفهوم وتنحجب، المفهوم يصير جميع أجزاءه المشكلة والسيد الدال الذي يمثل التفاصيل والمعاني دون حضورها، في استحضار المفهوم لا يعد من حاجة لتعداد الخصائص والمركبات التي تمثله، لأن المفهوم أزاحها ليمثلها ويكون حضورها عبر استبعادها وتصير المعاني مفهومة ضمناً.
هذه مقدمة للوقوف على إشكاليات انفصال المفهوم عن معانيه الأولى المولدة. بشكل أكثر دقة هذه مقدمة للتأمل بما الذي تعنيه اليوم القضية الفلسطينية؟ ما الذي تشير إليه؟ ما هي مركباتها؟ أو بالأحرى عن تحول المفهوم إلى مجوف، زئبقي وهش.
حق العودة ومفهوم الدولة الديموقراطية ..
المفهوم شيفرة لغوية مجدولة بشرط ولادتها وسياق تشكلها، وهو صرة المعاني والخصائص التي تعكس شرط انبلاجه، قد يتحول المفهوم من تكثيف للمعاني والمركبات إلى مفهوم مجوف وخاوي في حال تم الإبقاء عليه هيكلاً لغوياً لكن تم نسل المركبات التي يحيل إليها بشكل تدريجي وعلى فترات متعاقبة فيتحول إلى إطار بلا مضمون أو هيكلاً هرماً هشاً، في تحوله هذا يشيخ المفهوم ويصير عاجزاً عن التعبير عن معانيه، وإن استحضر في شرط جديد فهو لا يعكس إلا بقايا معاني رومانسية لزمنه الأول، كشيخ هرم يستعيد ذاكرة قوته الجسدية في لحظة شبابها.
لكن كيف تشيخ المفاهيم وما علاقة هذا الهرم بالقضية الفلسطينية؟ بحق العودة؟ باللاجئين؟ والأهم كيف تؤثر هذه الشيخوخة الأنطولوجية على الممارسة السياسية وتؤثر على تحولاتها؟
يعيد البعض ولادة مفهوم القضية الفلسطينية إلى بدايات الصراع مع الصهيونية وظهور المطامع الصهيونية لإقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، لكن مما لا شك فيه أن اشتداد عود المفهوم وتحوله إلى مفهوم سياسي وطني وقومي محمل بالإحالات والمعاني العينية الثقيلة حدث بالذات بعد النكبة الفلسطينية واحتلال 78% من أرض فلسطين وتحويلها إلى دولة إسرائيل وطرد 50% من سكان فلسطين التاريخية وتحويلهم إلى لاجئين مشردين يعيشون في مخيمات اللجوء وتدمير قرى ومدن فلسطين ومؤسساتها المجتمعية والثقافية ومصادرة أملاك اللاجئين ومنع عودتهم.
في هذا السياق الزمني كانت المركبات المركزية التي يُحال إليها مفهوم القضية الفلسطينية في لحظة الكارثة تتمحور حول الخراب واللجوء والسلب الذي سببته الصهيونية ومنه اجترح المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع لاستعادة الحقوق المسلوبة: حق العودة، حق رجوع اللاجئين إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم، وحق إعادة ممتلكاتهم وحقهم في الحياة في وطنهم، على أساس استعادة الحقوق انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني لتركيز العمل من أجل استعادة الحقوق ووضع برنامجها الكفاحي لتحقيق ذلك، وتوازى ذلك مع بناء وتشكل ثقافة وطنية حاملة لهذا المشروع ومتمحورة حول موتيفات العودة والأرض والتحرير.
كان مفهوم الدولة الديموقراطية الذي طور في أروقة مركز الأبحاث الفلسطيني لاحقاً هو الإطار المؤسساتي المأمول الذي سيتم من خلاله مأسسة استعادة الحقوق وتسييرها، ونظم العلاقات الداخلية بين المواطنين المستقبليين بعد عودتهم.
باختصار كانت القضية الفلسطينية تتمحور أساساً حول حق العودة ومركزها الإنساني هو اللاجئ وفضاء عملها هو المخيم ، أما الدولة فكانت الإطار الذي سينظم سيرورة استعادة الحقوق بعد تحقيقها.
لكن ماذا حدث منذ أن انبلج مفهوم القضية الفلسطينية كقضية حقوق واستعادة حقوق وعودة؟ ماذا حل بالمفهوم حتى لم يعد بالإمكان اليوم الاتفاق تماماً على ما نعنيه حين نقول القضية الفلسطينية!
هندسة جديدة للفلسطينيين وقضيتهم ..
مرت القضية الفلسطينية منذ النكبة بمجموعة من التحولات والانزياحات البراديغماتية المستمرة التي كانت تؤدي في كل مرة إلى إعادة حشوها بمعاني جديدة على حساب المعاني المؤسسة، إلى درجة انفصل المفهوم عن مركباته الأولى وتحول إلى مفهوم عائم بلا مرساة وتم حشوه بمركبات جديدة متحركة بدورها، مما جوفه من المعنى الأصلي وصار مفهوماً زئبقياً عصياً على القبض، فقد تحول مفهوم القضية الفلسطينية تدريجياً من مفهوم عودة واستعادة حقوق وتحرير من المستعمر مركزه الشتات والمخيم إلى مشروع دولة واستعادة حقوق مع تبني منظمة التحرير لمشروع الحل المرحلي للنقاط العشر عام 1974، ثم انزاح تدريجياً إلى مشروع دولة وترافق ذلك تدريجياً مع خروج القيادات من حاضنته في المخيمات بعد اجتياح بيروت عام 1982 وانتقالها إلى إدارة العمل الوطني من تونس، ووصل الانزياح ذروته مع توقيع اتفاقيات أوسلو، وانتقال الثقل القيادي الفلسطيني إلى الأراضي المحتلة عام 1967 ثم تركيز جهودها بالأساس على إنهاء الاحتلال والاستقلال.
كان الأثر المترتب عن الانزياح المكاني للقيادة الفلسطينية من المخيم في الشتات إلى الأرض المحتلة عام 1967 والتحول السياسي من استعادة الحقوق والعودة إلى إنهاء الاحتلال عن الأراضي المحتلة عام 67، هو التذييل المستمر للمركب الأساسي الذي شكل المولد الأول والعمود الفقري الحامل لمفهوم القضية الفلسطينية -العودة والمخيم– وتحويل المخيم تدريجياً إلى الساحة الخلفية المعتمة للقضية الفلسطينية التي يتم استحضارها لغوياً كنوع من الضريبة الكلامية لا أكثر، وتحول المخيم تدريجياً إلى دمل مزعج يعالج بالإهمال والتجاهل كما تجلى الأمر بالتجاهل المريب لتدمير مخيم اليرموك ومن قبله مخيم نهر البارد، بدل استخدام اللحظة للتشديد على حق العودة للاجئين بدل تركهم لمصيرهم الدامي، ويمكن تفسير الأمر باستبطان القيادة عجزها عن تحقيق العودة في ظل علاقات القوة القائمة مقابل "إسرائيل" أولاً وانكبابها على إنهاء الاحتلال وتركيز كل مجهودها على ذلك ثانياً، لكن كل هذا ما كان يمكن أن يحدث لو لم تستبطن الأكثرية الصامتة العجز ولو بشكل غير واعي واستبطان الهندسة الجديدة للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، حيث يقف الفلسطيني في الضفة وغزة بمركز القضية الفلسطينية وتقف الأرض المحتلة عام 1967 بمركزها فيما يرمى المخيم واللاجئ وراء ستار العتمة.
ويأتي الحديث الجديد عن صفقة القرن الترامبية ليشكل أداة إضافية تهدف لتعميق تجويف مفهوم القضية الفلسطينية وتفريغه من مركباته الجديدة المتمحورة على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة في الضفة وغزة، والتي حلت محل المركبات المولدة الأولى للعودة واستعادة الحقوق والتحرر، في هذا السياق تسعى صفقة القرن إلى تجويف مفهوم القضية الفلسطينية حتى الخواء، بحيث تتحول القضية الفلسطينية من قضية تحرر إلى قضية صراع بين جماعات على نتف أراضي ونتف حقوق مبعثرة في أراضي متقطعة، يتم حلها ببعض الترتيبات المستلفة من عالم المال والأعمال والفهلوة.
في هذا الإطار لا يوجد مكان للحديث عن حق العودة بوصفه المركب الأم للقضية الفلسطينية فقط، بل لا يوجد مكان للحديث عن مفاهيم حل الصراع والاستقلال الوطني بمفاهيمه الليبرالية المبنية على المواطنة الكلاسيكية.
توازت الانزياحات في معنى القضية الفلسطينية وتحولاتها المستمرة في انحدار القدرة الفلسطينية على المواجهة أولاً، وفي إعادة موضعة المطالب الفلسطينية لتتلاءم كل مرة مع علاقات القوة اللحظية ثانياً، إذ أن الانزياح من خطاب الحقوق ومن المخيم أدى إلى تركيك مستمر للقدرة والأهم إفراغ المشروع الفلسطيني من مركبه الأساسي والأخلاقي والحقوقي الأبرز، وحوّل القضية الفلسطينية إلى قضية هائمة يمكن تقاذفها كالكرة بين الأرجل، ولا يمكن أن يتم إنهاء هذه الحالة الكارثية إلا بإعادة المخيم إلى مركز القضية الفلسطينية، على الأقل لكي نعيد للمفهوم معناه الأول ومرساته الأخلاقية وقليلاً من إكسير الشباب!