الوليد يحيى
طقوس العيد في كلّ بلد عربي، لها نكهةٌ خاصّة مستمدّة من خصوصيّات هويّاتية متباينة بين بلد وآخر، وحتّى بين منطقة وأخرى في ذات البلد، حيث تتباين بعضّ التفاصيل، وهو ما يمثّل الغنى الممتمع والحيوي للبلدان كبلدان، لكن قلّما نجد هذا التنوع الغني داخل المدن الكبرى - العواصم، التي عادةً ما تكون متمترسة خلف طقوسيّات جافّة، مُحافظة متوارثة يرى أصحابُها تمايزها برتابتها وجمودها.
لذلك، مراكز المدن في الأعياد تقتصر فيها الطقوس على رسميّات الواجب، وبعض التجاريّات الإستهلاكيّة الرتيبة، بينما أطرافها وأريافها تغلي حيويةً كاسرةً لكل ما يقيّد البهجة والاحتفال، وهذا هو الحال بالنسبة لدمشق التي كانت تغدو أطرافها في العيد، مهرباً مشاغباً حتّى لأبناء مركزها، المخنوقين من رتابة مدينتهم، قبل أن تُنكب تلك الأطراف بما شُنّ عليها من حرب وتدمير.
لكن دمشق كمدينة، غارقة بسياقها الطبيعي كمدينة كبرى وعاصمة، أكسبها مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بعض الفرادة، ومن خارج سياقها التاريخي، ليصير في متنها الإجتماعي، وداخل حدودها الإداريّة كذلك، فهذه المساحة التي أسسها اللاجئون الفلسطينيون، جعلت من دمشق تتميّز عن باقي العواصم العربيّة من حيث صفة التنوّع المتمايز بالكثير من التفاصيل الهوياتية في داخل المدينة الواحدة، خصوصاً في العيد، وهو موضوع حديثنا هنا.
فلوهلةٍ، قد يظنّ سائح من خارجها أنّه قد خرج منها، حين يلج مخيّم اليرموك بعد جولة في أحياء مدينة دمشق في العيد، حيث ينقلب المشهد كليّاً، من شوارع فارغة ورتابة كئيبة في المقاهي، إلى كرنفال احتفاليّ في الشوارع والساحات، ومحلّات تجارية وأسواق أرصفة تُفرش على الامتداد، وأطفال ومراجيح وفنون ابداعيّة في اختلاق البهجة.
ولأنّ الحديث هنا عن طقوس العيد، ولأنّ اليرموك إداريّاً هو حيٌّ من أحياء مدينة دمشق، فهي كانت تشعّ بفضله بما يكسر رتابة عيدها، وفي هذا القول نرجسيّة يحق للمخيّم أن يستعرضها أمام غرور المدن الكبرى، وعلى دمشق أن تستوعبه، فهي اليوم ناقصة في عيديها، بعد أن غرق مخيّم اليرموك في نكبته وغاب.
حالةٌ تبدأ قبل العيد بأيّام، تظهر ملامحها في حركة تسوّق لا تنام، تُفتتح في أسواق لوبية وصفد واليرموك الرئيسي، لطالما شكّلت ملجأ للكثير من أهالي المدينة في صناعة عيدهم وشراء مستلزماته، فأسواق مخيّم اليرموك كانت مقصداً لفقراء دمشق، وطبقتها الوسطى حتّى، الذين طردتهم أسواق مدينتهم، فكان لهم اليرموك كأي حالة طرفيّة في حركيتها الاقتصادية التي تناسب المستوى المعيشي في أسعارها للسكّان، ولكنّها ضمن المدينة الإداريّة، وهذه ميزة لا يضطّر المتبضّع من اليرموك القول أنّه جلب ما جلبه من خارج الشام، فاليرموك كان شام الفقراء ومتوسطي الدخل.
لساحات العيد في المخيّم، روّادها البعيدون، وقد يتذكّر ابن المخيّم مشهد السيارات الغريبة التي كان يعجّ بها المخيّم، والقادمة من قلب دمشق، لعائلات يصطحبون أطفالهم الى حديقة الطلائع في المخيّم، وشارع الثلاثين الذي يحوّله اليرموكيون في كل عيد الى منتزه كبير ومفتوح، ساحة فلسطين وأبو حشيش، وما تغصّ به من وسائل البهجة، ففي اليرموك وحده كانت تتحول الساحات الى مدن للألعاب، وهذا مالا تحتمله أحياء دمشق الأُخرى بطبيعتها.
وما تكرّس في مخيّم اليرموك من حالة هوياتية فلسطينية سوريّة، أكسبت دمشق رائحةً يُمايزها المتجوّل بين أحياء المدينة في كافة الأيّام، ولكن لأيّام العيد رائحة تحويجة كعكها في حيّ اليرموك - المخيّم، المتمايزة عن بقية أحياء دمشق، و التي حضرت من فلسطين مع أبنائِها، والكثير من الأصناف التي أغنت موجودات موائد دمشق، وهنا لا يتقارب الأمر مع ما تحتويه المدينة من موجودات تخصّ المدن السوريّة الأخرى، لأنّ اليرموك صار من نسيج المدينة، وبالتالي ما فيه صار دمشقيّاً في التسمية، فلسطينيّ يرموكي في تمايزه، وهو ما يدركه القادم من خارج دمشق ويزور يرموكها.
فقدت دمشق يرموكها، ونقص عيدها الكثير، يفتقده اليوم ليس أبناء اليرموك فقط، بل أولئك الجيران في الأحياء الدمشقيّة القريبة والبعيدة، الذين كان المخيّم سوقهم ووجهاً مختلفاً لعيدهم، ساحة بهجتهم المتميّزة، قيمة أضافها اللاجئون لمدينتهم، وميّزوها عن شقيقاتها من العواصم، وبفقدان اليرموك صارت دمشق في عيدها مدينة عاديّة جدّاً.