يمر اليوم 75 عاماً على نكبة الشعب الفلسطيني التي أحالت أكثر من نصفه إلى لاجئين خارج وطنهم المحتل، مشتتين في مناطق متعددة من جوار فلسطين وحول العالم، مرّوا خلالها بالعديد من المحطات، اتسمت بالعمل من أجل التحرير والعودة إلى وطنهم، وخاضوا العديد من التجارب النضالية والكفاحية، ومارسوا كل مختلف أنواع الفعاليات الثقافية والسياسية على طريق نيل الحق في تقرير المصير والعودة إلى وطنهم.
محطات كثيرة، تعثرّ فيها فلسطينيو الشتات، وانقلبت حالاتهم النضالية إلى نكبات ومآسي نزوح وتهجير، إلا أنهم استقروا في أماكن لجوء جديدة ليعيدوا تشكيل فاعليتهم فيها، ونشير هنا إلى ما حصل بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970، حين دُفع بكتلة كبيرة من اللاجئين، قسراً إلى لبنان لتكون محطة تالية، ليعاد تهجير كتل وازنة منها إثر الاجتياح "الإسرائيلي" لبيروت عام 1982.
نكبات تهجير متعددة طاولت الفلسطينيين، عقب نكبتهم الأولى عام 1948، لم يشعر خلالها فلسطينيو الشتات أنهم مهددون بوجودهم، كما يشعرون خلال العقد الأخير، نظراً للحروب والأزمات التي طاولت أماكن استقرارهم وخصوصاً في سوريا، فالمأساة السوريّة منذ عام 2011، حبست ضحاياها الفلسطينيين في قفص يتدحرج دون مستقر في آخر المنحدر، وتتكثّف هذه الحالة في أقصى تجلياتها لدى من هُجروا من سوريا، واضطروا إلى البقاء في لبنان وتركيا، وهما بلدان يعيشان تقلبات اقتصادية وسياسية واجتماعية غير متطابقة في تفاصيلها، إلا أنّها متشابهة في انعكاساتها وجودياً على فلسطينيي سوريا المهجرين إليها، ولكن هذه المرّة دون خيارات عربية وغير عربية تحتويهم، ولا احتواء سياسي فلسطيني لهم، ما يجعلهم شريحة مجرّدة، وفي مهب الريح.
29 ألف لاجئ فلسطيني سوري بقوا في لبنان، بعد أن تقطعت بهم السبل للفكاك خلال السنوات السابقة، واللحاق بكتلة كبيرة هاجرت عبر طرق متعددة، فالعدد منذ العام 2011 حتّى 2014 بلغ 100 ألف لاجئ مهجّر، هاجر معظمهم، قبل أن تصعب مسارات الهجرة، وتُسد الطرق وكذلك أبواب دول اللجوء الأوروبي بقوانين تحد من وصولهم إليها.
أما في تركيا، فيقدر عدد اللاجئين الفلسطينيين السوريين هناك، بحوالي 2400 عائلة فلسطينية مسجلة، بواقع 8 إلى 10 آلاف فرد، وموزعين على معظم الأراضي التركية في الوسط والجنوب، علماً أنّ قرابة 390 عائلة منها لا تمتلك وثائق الحماية المؤقتة، ويعتمد كثير منهم على جواز سفر السلطة الفلسطينية لتبرير أوضاعهم القانونية.
تضييق وهواجس مشتركة إزاء العودة إلى سوريا
إلى جانب تجريدهم من الاستقرار القانوني والمعيشي، يعيش فلسطينيو سوريا في لبنان وسط تصاعد لخطاب الكراهية ضد اللاجئين، الذي تطلقه أحزاب ومجاميع سياسية ومحطات إعلامية، ضد اللاجئين السوريين، بالتوازي مع الحملات الحكومية لترحيل السوريين.
فعمليات ترحيل اللاجئين السوريين المخالفين لشروط الإقامة، التي بدأتها السلطات منذ مطلع العام 2023 الجاري، بموجب قرار المجلس الأعلى للدفاع في لبنان الصادر في نيسان/ أبريل 2019، سجنت العديد من فلسطينيي سوريا في لبنان في منازلهم، خوفاً من الترحيل، الذي يجمع كثيرون على أنه دفع باتجاه الموت، نظراً لكون نسبة كبيرة تقدرها جهات تنشط في شؤونهم بأكثر من 40%، لا يمتلكون أوراق إقامة قانونية في لبنان، ولا يمنحهم البلد المضيف أية اعتبارية كلاجئين، تستوجب احتواءهم ضمن صيغة توفر لهم استقراراً قانونياً.
لتجد تلك الشريحة نفسها أمام "خيارات كلّها موت"، حسبما عبّرت اللاجئة الفلسطينية المهجّرة من سوريا "أم سامر شعبان" وتسكن في صيدا، بعد أن هاجر ابنها الكبير إلى ألمانيا عام 2015، بينما تعيش الآن مع ابنيها الآخرين حياة يملؤها القلق على المستقبل من مصير مجهول.
تقول اللاجئة شعبان لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ ما ينتظره فلسطينيو سوريا في لبنان هو فرج ما يحلّ عليهم، فيما تنقضي سنوات العمر، وكأنهم ينتظرون نفادها كخلاص طبيعي من واقع لا يتيح لهم التفكير أكثر من تأمين المأكل والمشرب، في وقت تحيطهم الكثير من الهواجس حول فقدان مكان العيش.
عمليات الترحيل القسري التي يشهدها لبنان وضعت اللاجئين الفلسطينيين المهجرين ضمن أكبر أزمة وجودية
وسجلت في إطار حملات ترحيل اللاجئين السوريين، حالتي إيقاف لفلسطينيين مهجرين من سوريا، وثقهما بوابة اللاجئين الفلسطينيين وتعودان للاجئ باسل الخطيب الذي جرى ترحيله إلى الحدود ما عرضه لمخاطر أمنية بتاريخ 27 نيسان/ أبريل الفائت، واللاجئ أحمد جهاد الكردي الذي اعتقل ضمن مجموعة من اللاجئين السوريين وسُلِّم لجيش النظام السوري عند الحدود مع لبنان يوم 10 أيار/ مايو الجاري.
وتشير "رابطة الفلسطينيين المهجرين من سوريا إلى لبنان" وهي جهة مدنية مستقلة تنشط في شؤون فلسطينيي سوريا المهجرين، إلى أنّ عمليات الترحيل القسري التي يشهدها لبنان، وضعت اللاجئين الفلسطينيين المهجرين ضمن أكبر أزمة وجودية لم يعشها سواهم من الفلسطينيين بهذا الشكل غير المسبوق.
وأرجعت الرابطة على لسان مسؤولها طالب حسن في حديث لبوابة اللاجئين الفلسطينيين استحالة العودة إلى سوريا لعدّة أسباب، أبرزها المُساءلة الأمنية التي تطال كل من خرج من سوريا خلال أحداث الثورة عام 2011، سواء كان مشاركاً في الأحداث أم لا، إلى جانب فقدانهم مقومات حياتهم هناك، حيث تهدمت منازلهم ومصادر رزقهم، ولم يعد لهم أي مقومات للعيش المادي.
اقرأ/ي أيضًا عالقون في لبنان.. فلسطينيون من سوريا لا يجدون ما يعزز صمودهم
أمّا في تركيا، ومنذ بدء التحضير للاستحقاق الانتخابي الذي شهدته البلاد أمس الأحد 14 أيار/مايو 2023، تتصاعد وتيرة الخطابات السياسية التي توظف مسألة اللاجئين السوريين، في الخطابات التعبوية، ويجري تظهيرها على أنها إحدى المشاكل الوجودية للشعب التركي، وسط حملات إعلامية وشعبوية تحريضية، تحيل الإشكاليات الاقتصادية التي تعاني منها البلد إلى اللاجئين فيها.
ويعبر الناشط الفلسطيني من أبناء مخيم اليرموك المهجرين إلى تركيا باتر تميم لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، عن الهواجس التي يعيشها فلسطينيو سوريا هناك، في ظل وضع قانوني شائك منذ سنوات، ومعقد "بسبب الفشل في استصدار قرار حكومي رسمي يعترف به كلاجئ في تركيا أولاً، وعدم وجود قانون يُعرف حالته كلاجئ من سوريا بلد لجوئه الأول، إلى تركيا بلد لجوئه الثاني وهو المعرَّف بلا وطن حسب القانون الدولي.
تتطابق الهواجس إزاء العودة إلى المخيمات الفلسطينية في سوريا الواقعة تحت سيطرة النظام السوري
يضيف تميم: أنّه خلال السنوات الماضية تم ترحيل عدد من الفلسطينيين السوريين إلى شمال سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة السوريّة، ورغم محدودية تلك الحالات، إلا أنها حدثت فعلاً، ويخشى الفلسطينيون السوريون من توسع عمليات الترحيل تلك مما يشكل خطراً على حيواتهم وأبنائهم نظراً لعدم استقرار الوضع الأمني والمعيشي والخدمي في الشمال السوري، والمستقبل السياسي والعسكري الغامض لتلك المنطقة. حسبما أشار.
وفيما يخص العودة إلى المخيمات الفلسطينية في سوريا الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، فتتطابق الهواجس مع تلك التي يحملها المهجرون إلى لبنان، وقوامها المخاطر الأمنية المترتبة على ذلك، والخوف من الاعتقال والتغييب القسري مع غياب شبه كامل للخدمات في تلك المخيمات، كالكهرباء والمياه وغيرها نتيجة الدمار الهائل بالبنى التحتية، كمخيمات اليرموك وخان الشيح ودرعا وغيرها، التي تم تدميرها إلى حد كبير خلال الحرب، مع انعدام الأمن المالي والغذائي لمن يفكر في العودة إلى هناك نتيجة الغياب التام لفرص العمل، حسبما يقول تميم.
ضحايا جردوا من الغطاء السياسي
ولعلّ فلسطينيي سوريا المهجرين إلى لبنان وتركيا، هم الآن النتيجة الأوضح لنهج سياسي، أسس لتهميش اللاجئين الفلسطينيين، منذ انطلاق مسار "أوسلو" عام 1994، وتكريس تبعية اللاجئين الفلسطينيين للدول التي لجؤوا إليها عوضاً عن احتوائهم ضمن مؤسسات منظمة التحرير وأطرها القانونية، وهو ما تنعكس نتائجه على فلسطينيي سوريا في البلدين.
وتقارب "رابطة الفلسطينيين المهجرين من سوريا إلى لبنان" مسألة فلسطينيي سوريا في لبنان مع مسألة فلسطينيي العراق، الذين وجدوا أنفسهم دون أي إطار دولي أو فلسطيني يحتويهم بعد سقوط الدولة العراقية بفعل الاحتلال الأمريكي عام 2003، ما جعلهم ضحايا لتصفيات حسابات سياسية، وحملات اختبرت من خلالها القوى الطائفية هناك، ممارساتها وخطابها، ليكون اللاجئ الفلسطيني من أوائل ضحاياها.
اللاجئ الفلسطيني السوري في لبنان يعتبر ضمن التبعية السورية ولا شأن لسفارة السلطة الفلسطينية به
إلا أنّه في حالة فلسطينيي العراق، وبعد سنوات من أزمتهم وتشريدهم في مخيمات حدودية مع سوريا، تدخل "الفاعل السياسي الفلسطيني" الممثل بالسلطة الفلسطينية، وقام رئيسها محمود عباس بمخاطبة المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين "UNHCR"، ليصار إلى إيجاد حل تمثل في إعادة توزيعهم على دول لجوء جديدة حول العالم.
أما في حالة فلسطينيي سوريا بلبنان، يشير مسؤول الرابطة طالب حسن، إلى أنّ الفاعل السياسي الفلسطيني كان مختفياً تماماً، فاللاجئ الفلسطيني السوري في هذا البلد يعتبر ضمن التبعية السورية، ولا شأن لسفارة السلطة الفلسطينية به، فيما تتولى وكالة "أونروا" مسؤولية إغاثته، بتقديمات شحيحة، دون توفير أي أفق لحل وضعه.
يرى حسن أنّ الوكالة تعرقل أي حل يطالب به اللاجئون المهجرون سواء على نحو فردي أو جماعي بتوفير بلد لجوء ثالث لهم كفلسطينيي العراق، نظراً لكونها المسؤول الأممي عن فلسطيني سوريا، فيما لا تشمل برامجها، توفير بلد لجوء ثالث، كما فعلت المفوضية مع فلسطينيي العراق.
وأكد حسن، على مسؤولية المجتمع الدولي في إيجاد حل لفلسطينيي سوريا المهجرين، إمّا بإعادتهم إلى فلسطين وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي يقضي بعودة اللاجئين إلى وطنهم، أو توفير بلد لجوء ثالث لهم إلى حين تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وهذا يقتضي تدخل الجهات السياسية الفلسطينية.
للفلسطيني السوري في تركيا في وضع قانوني شائك ومعقد
إلا أنّ الحال قد تبدو في تركيا أكثر تعقيداً، نظراً لخروج الفلسطينيين المهجرين إلى هناك، عن نطاق عمل وكالة "أونروا" وليست من أقاليم عملها الخمسة، ما حرمهم من المساعدات الإغاثية، ليضاف ذلك إلى حرمانهم من الغطاء السياسي والقانوني.
الناشط باتر تميم، يوضح أنّ اللاجئ الفلسطيني السوري في تركيا يعيش منذ عدة سنوات في وضع قانوني شائك ومعقد، بسبب الفشل في استصدار قرار حكومي رسمي يعترف به كلاجئ في تركيا أولاً، وعدم وجود قانون يُعرّف حالته كلاجئ من سوريا بلد لجوئه الأول إلى تركيا بلد لجوئه الثاني، وهو المعرَّف بلا وطن حسب القانون الدولي.
فلسطينيو سوريا في تركيا يدركون بشكل عميق أوضاعهم الهشة قانونياً ومعيشياً، لذا سجلوا محاولات عديدة ومناشدات قام بها ناشطون هناك، لحل مشاكلهم القانونية، ولكن بلا جدوى، حسبما أضاف الناشط تميم.
اقرأ/ي أيضًا بعد اليأس من الجهات الفلسطينية الرسمية.. فلسطينيو سوريا في تركيا يحلون مشاكلهم القانونية بأنفسهم
يوضح تميم، أنّه حتّى اليوم، كل إدارة هجرة في الولايات التركية، بل كل موظف في إدارات الهجرة، يتعامل مع الفلسطيني السوري باجتهاد شخصي وفق ما يراه هو مناسباً، فيمكن أن ترى داخل العائلة الواحدة عدة حالات قانونية، فعلى سبيل المثال هناك عائلات فلسطينية سورية في تركيا، الزوج يحمل هوية حماية مؤقتة، لكن بالجنسية السورية والزوجة تحمل هوية حماية مؤقتة بموجب الجنسية الفلسطينية، والأبناء منهم من يحمل ورقة توقيع دورية، ومنهم من لديه جواز سفر السلطة الفلسطينية بلا ختم دخول شرعي للبلاد.
وبناء على هذا الوضع القانوني الهش والضبابي، يعيش الفلسطيني السوري في تركيا منذ سنوات حالة من عدم الاستقرار النفسي والجسدي، نظرا لحرمان الآلاف منهم من الخدمات الرئيسية كالطبابة والتعليم والتنقل والعمل بطريقة شرعية، كما يزاد التوتر والقلق مؤخراً مع ارتفاع حدة الأصوات التي تنادي بترحيل اللاجئين، وتصدر قضية ترحيل اللاجئين للبرامج الانتخابية للمرشحين.
اقرأ/ي أيضًا العلاج لفلسطينيي سوريا في تركيا مرهون بنوع الإقامة.. غيابها قد يؤدي إلى الموت
ويحمّل الفلسطينيون المهجرون من سوريا سواء إلى لبنان أو تركيا، الممثلين السياسيين للشعب الفلسطيني مسؤولية حل الأوضاع القانونية. ففي تركيا، يقول الناشط تميم: إنّ هناك وجه تشابه بين فلسطينيي العراق وفلسطينيي سوريا، من ناحية أنّ كليهما عانى من التهميش وغياب دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بحجة أنهم خارج نطاق عمل الوكالة، كما عانى الطرفان من عمليات قتل واختطاف وتهجير الأول إبان سقوط النظام العراقي عام 2003 والثاني بعد اندلاع الحرب في سوريا، إلا أنّ الفرق هنا بتدخل الفاعل السياسي الفلسطيني.
وأضاف، أنّ فلسطينيي سوريا في تركيا يشعرون بالخذلان، بسبب "تسويف عملية السعي القانوني لتسوية أوضاعهم من قبل سفير السلطة الفلسطينية في تركيا." مشيراً إلى أنّ السفير وعدهم أكثر من مرّة بالعمل على حل مشاكلهم القانونية.
وذكر تميم، أنّ العديد من الجاليات لها من يحل أوضاعها، كالجالية اليمنية التي تدخلت جهات تمثلها لمنحهم إقامات إنسانية في تركيا. وأرجع حرمان الفلسطينيين من هذا النوع من الإقامات، لأداء السفارة الفلسطينية، وكذلك المؤسسات الفلسطينية العاملة في هذا البلد، والتي لها نفوذ لدى المؤسسات السياسية الحكومية، والتي تسعى لإصدار إقامات إنسانية لأعداد محدودة من المقربين منها، دون العمل على تعميم الحالة لكافة اللاجئين الفلسطينيين المهجرين من سوريا.
وطالب تميم الذي ينشط ضمن تجمع لنشطاء مخيم اليرموك المهجرين من سوريا، عبر بوابة اللاجئين الفلسطينيين، السفير الفلسطيني والجمعيات الفلسطينية، وكل من يمثل الفلسطينيين في تركيا بالتحرك مجدداً لحل هذه المشكلة التي كادت تلامس عشر سنوات، ووضع خطة عمل والتواصل مع جميع الأطراف التركية لإنقاذ الفلسطينيين السوريين من الترحيل في حال بدأت هذه الحملات مستقبلاً.