شكل شعار "من النهر إلى البحر.. فلسطين حرة" ذريعة جديدة للقمع الذي يتعرض له الفلسطينيون في كل من ألمانيا والنمسا، ليفتح الباب مشرعاً أمام معركة قضائية يخوضوها الفلسطينيون مع السلطات في هذين البلدين.
رغم نص الدستور في هذه الدول على حرية التعبير التي يكفلها القانون، إلا أنه ظهرت مؤخراً قرارت تمنع ترديد هذا الشعار، الأمر الذي يرجعه الناشطون الفلسطينيون إلى خضوع ومحاباة هذه الدول للمنظمات الصهيونية والداعمة للاحتلال "الإسرائيلي".
ازدادت إجراءات منع هذا الشعار بعد عملية طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية ضد المواقع "الإسرائيلية" في غلاف قطاع غزة، حيث وجدت السلطات النمساوية والألمانية الفرصة سانحة لمنعه.
لا يعد الشعار جديداً فقد استخدمته منظمة التحرير وورد في ميثاقها، وردده الفلسطينيون في مظاهراتهم سابقاً وإن كان بالصيغة العربية المختلفة، "من المية للمية... فلسطين عربية"، إلا أن سلطات هاتين الدولتين وجدت أن حركة حماس (المحظورة أوروبياً) استخدمته في ميثاقها عام 2017، معتبرة أنه يدعو إلى القضاء على اليهود في "إسرائيل"، لذا منعته.
يؤكد الشعار حتمية إنهاء الاحتلال والتمسك بعودة الفلسطينيين إلى أرضهم
المسؤول في لجان فلسطين الديمقراطية بألمانيا إبراهيم إبراهيم أكد أن الشعار لم يكن ممنوعاً سابقاً، لكن بعد حرب الإبادة "الإسرائيلية" على غزة منعته ألمانيا، لأنه يؤكد حتمية إنهاء الاحتلال وتمسك الفلسطينيين في أرضهم، والعودة إليها ضمن حدودها التاريخية من نهر اليرموك شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً، فيما السياسات الألمانية لا تعترف بهذه الحدود، بل بوجود ما يسمى "إسرائيل"، بحسب رأيه.
وقال لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: "أوضحنا باستمرار للشرطة أن الشعار يعني تأسيس دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي جنباً إلى جنب على قدم المساواة بالحقوق والواجبات، بعيداً عن التمييز العنصري".
وأضاف أن "منع الشعار منسجم مع الموقف الاستراتيجي الألماني الداعم للاحتلال وأمنه، لذا يدعمونه بكل الوسائل، ولن يتغير الموقف إلا بعد حدوث تغييرات إقليمية".
لكن منع الشعار يأتي في سياق منع الفلسطينيين التظاهر، الأمر الذي بدأ يعاني منه الفلسطينيون في ألمانيا قبل سنوات عدة، وهو من أهم التحديات التي يواجهها أي نشاط داعم لفلسطين، فيُقمع المتظاهرون وترفض السلطات منحهم التصاريح للتظاهر في كثير من الأحيان، رغم أن حق التظاهر مكفول دستورياً لأي فرد يعيش في أوروبا، وفقاً للصحفي الفلسطيني محمد نجمة.
رغم سياسات التقييد فإن الحراك الفلسطيني في أوروبا بدأ بتغيير الرأي العام
وأرجع نجمة أسباب هذا الموقف الألماني إلى "التاريخ النازي الألماني، المتمثل بالمحرقة ضد اليهود، لذا تَعتبر ألمانيا الوقوف بجانب إسرائيل مسؤولية لمنع عودة النازيين مجدداً، خاصة مع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة الشعبوية في الانتخابات المحلية مثل حزب البديل من أجل ألمانيا والذين يطلقون عليهم في ألمانيا لقب النازييين الجدد".
ولكن في الوقت ذاته يؤكد نجمه أن الحراك الفلسطيني في أوروبا، المتجسد في المظاهرات بدأ في تغيير الرأي العام حتى على الصعيد السياسي في أوروبا، والذي كان مُنحازاً بشكل شبه كامل لصالح "إسرائيل"، حيث بدأت أصوات كثيرة تدعو إلى فرض حل الدولتين "لكونه الحل الوحيد لإنهاء الصراع"، بحسب نجمة.
هذه الأسباب مع حرف اللوبي "الإسرائيلي" ومسانديه الانتباه العام عن المجزرة التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة، وقلب صورة الجاني والضحية بتصوير "إسرائيل" بأنها تعاني خطراً وجودياً، ضخَّمَ موضوعَ الهتاف في الإعلام والسياسة، وفق ما يرى الناشط محمد أبو الروس المقيم في النمسا.
الشرطة في النمسا فرضت على منظمي المظاهرات التوقيع على ورقة تدين تحرير فلسطين
وقال أبو الروس: إن "غاية ذلك إدانة الفلسطينين ومؤيديهم بدعم الإرهاب، والابتزاز السياسي فمثلاً طلبت الشرطة من منظمي المظاهرات توقيع ورقة بتجنب ومنع استخدام هتافات لاسامية أو تحريضية أو معادية للإنسانية، وكان هذا الهتاف في نص التعهد مثالاً عليها، أي أن الشرطة حاولت إجبار على منظمي المظاهرات التوقيع على ورقة سياسية تدين مطلب حركة التحرر الفلسطينية المركزي، وهو تحرير فلسطين".
وأضاف: أن الحظر ليس قانونياً، بل بناء على توجيهات وزارة الداخلية، ما اعتبره الناشطون تدخلاً سافراً في حرية التعبير وعسفاً من طرف المؤسسة التنفيذية، مشيراً إلى اقنتاعه بأنه سيسقط أمام القضاء هو وكل قرارات الحظر والغرامات التي بنيت عليه.
ويؤكد الناشط الفلسطيني أن الشرطة لم تعبأ بتوضيحات المنظمين، بل حظرت هتافاً آخر يطالب بنهاية الصهيونية في المنطقة الواقعة بين النهر والبحر، في الوقت الذي يتجاهل فيه الخطاب الإعلامي الرسمي مطالب المتظاهرين أنفسهم الذين أوضحوا معنى تحرير فلسطين من الصهيونية وارتباطه بإقامة كيان ديمقراطي يضمن للبشر هناك المساواة والحياة الكريمة.
اقرأ/ي أيضاً: مخالفات وتضييقات لقمع النشاط الفلسطيني في النمسا
ويشير أبو الروس إلى أن السلطات في النمسا تمضي قدماً بدعمها لـ "إسرائيل" حيث استضافت ممثلين عن المنظمات الصهيونية وعن "هيئة متابعة الإسلام السياسي"، بينما وزيرة العدل النمساوية تستهجن عدم وجود فقرة في القانون النمساوي تحظر "عدم الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود".
وحول مواجهة هذه الصعوبات أوضح أبو الروس أن "الناشطين انقسموا بقبول التوقيع على الورقة التي فرضتها الشرطةـ بهدف حشد أعداد كبيرة في المظاهرات، فيما رفض آخرون الابتزاز السياسي وترى بأن تحويل مسألة حظر التظاهر إلى مساحة حشد ومواجهة، أنجع مما عبّروا بأنه "تظاهر مُدجن لا يحقق هدف الضغط".
وأوضح بأن المجموعة الثانية فعلاً، نحجت بعد مواجهات عدة خاضتها خلال مظاهرات غير مرخصة في فرض صيغة أفضل لا تدين الهتاف وتمكنت من تنظيم وقفات ثابتة، وهي الصيغة التي جرت بناء عليها مظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر وسط البلد، في حين قبلت لاحقاً أطراف أخرى بالتوقيع على الورقة السياسية لتسيير تظاهرت متحركة، بهدف حضور أعداد أكبر فيها.
الفلسطينيون في النمسا ينتظرون نتائج جلسات المحاكم للبت ما إن كان منع الهتاف أحد أشكال التحريض
وفي المحصلة، مع نهاية العام سقط موضوع الهتاف ولم تعد الشرطة تنص على إدانته في ترخيص التظاهر بالنمسا، وإن واصلت حظره بطائلة فض التظاهرة.
ولفت المحامي فرح أبو جرجي إلى أن الشرطة تستند في منع التظاهر إلى آراء "مركز توثيق الإسلام السياسي" التابع لمكتب المستشارية النمساوية في تفسير عبارة "من النهر إلى البحر فلسطين حرة"، لافتا إلى أن هذا المركز يقول: إن لها عدة معاني: "إبادة إسرائيل" و"المطالبة بدولة إسلامية وبعض الحقوق للأقليات" و"دولة ديمقراطية وعلمانية لكل الناس"، ويلفت أبو جرجورة إلى أن الرأي الأخير أمر إيجابي ويثبت ما يقوله المنظمون.
وأشار إلى أن الناشطين الفلسطينيين قدموا اعتراضات على أغلب المظاهرات التي منعت من الشرطة، حيث ينتظرون جلسات المحاكم لمعرفة إن كانت هذا الشعار مخالفة للقوانين النمساوية، أم أنها نوع من "التحريض" أو ما يُوصف بـ "الإرهاب"، أم أن هناك سبباً سياسياً لمنع التظاهرات المؤيدة لفلسطين.
وكانت محكمة "برلين" و"فرانكفورت" الإداريتين ومحاكم في مدن ومقاطعات أخرى قد أصدرت أحكاماً بأن الشعار لا يمثل جريمة جنائية بحد ذاته، إلا أن منع الشعار لا يزال مستمراً في المظاهرات بألمانيا.