مخيم اليرموك هو الجغرافيا الوحيدة التي فهمتها، وحفظت خرائطها عن ظهر قلب.
لكن الجغرافيا ثانية، التاريخ هو من يحتل المركز الأول. والتاريخ ليس الأزمنة والأحداث والذكريات فحسب، بل هو أساسا: الأشخاص الذين عاشوا هذه الأزمنة، وصنعوا هذه الأحداث، وخلقوا هذه الذكريات.
خلال الحصار، التقيت بحسين. لم أكن أعرفه من قبل. كنت أغادر عيادتي منهكا، كانت العيادة في المجمع الطبي الخيري، الذي سأستلم إدارته لاحقا.
بعد تعرفي بحسين وتطور علاقتي معه، كنت عند مغادرتي عملي، أتوجه إلى منزله.. و"ترمس" الشاي المضاف إليه أعشاب مختلف (مريمية، نعنع، مليسة..) يكون كالعادة جاهز بانتظار من يشرب، لكن ولسوء الحظ يكن في تلك الفترة سكر، فكنا نلجأ إلى مادة "السكرين" (المحلي الاصطناعي الذي يستخدمه مرضى السكري).
حبة واحدة منه مع الشاي كان يمكن لها أن تخفف قليلا من مرارة الحياة.
كنا أنا وحسين نتكلم كثيرا في سيناريوهات ابتكرناها وكتبناها "نحن لسنا أحياء كما نظن. لقد متنا ذات يوم، من الجوع مثلا، أو من قذيفة هاون ذكية لا تستهدف إلا أوكار الإرهابيين، أو من رصاصة قناص أشفق علينا من المعاناة أثناء استلام الكرتونة.. وما نعيشه الآن ليس الحياة الدنيا، بل هو الجحيم، أو العالم السفلي، أو دورة جديدة من دائرة العود الأبدي اللعينة.."
خرج حسين من السجن ليحاصر في المخيم. ظلت طريقة جلوسه الغريبة توحي للناظر بأنه يقطن غرفة صغيرة مكتظة بالسجناء. لكنه كان متشبثا بالحياة، وفلسفته في ذلك كانت بسيطة جدا، وفي غاية الإقناع: الحياة حقه الطبيعي، لذا سيتمسك بهذا الحق ويعيش حياته كيف ما يريد.
وحين أحدثه عن الانتحار يقول لي بحزم: "لا بد أن نعيش نكاية بمن يريدوننا موتى". كان بذيء اللسان حين يغضب، لكني أجزم أن تلك
البذاءة المحببة المضحكة التي يولدها نابعة من قلب طيب، لكنه أيضا قلب ساخط على المهزلة التي نعيشها.
ساعات جوعنا كانت تتبخر ونحن نلعب الشطرنج. لم أفهم من أين
كان يستمد عزيمته وتركيزه من أجل البدء بلعبة جديدة كلما أنهينا واحدة. مثل ما لم أفهم كيف لشخص بمثل هدوئه أن يكون عاشقا لموسيقا الميتال، ولم أفهم كيف لإنسان بمثل مروءته أن يحتمل العيش في عالم قاس بشع لئيم.
حسين، الذي لم يقتله السجن والتعذيب، ولم يقتله التجويع الذي حصد العشرات من أبناء المخيم في تلك الفترة، قتله برميل متفجر دك المبنى الذي كان يسكنه، كان ذلك في إحدى ليالي نيسان من عام 2015.
اختلطت أشلاء حسين بأشلاء قطيه الحبيبين اللذين كانا دائما ما يؤثرهما على نفسه بالطعام الشحيح آنذاك. فلم يكن غريبا أن يبادلاه الحب بالحب، وأن يختارا الرحيل معه. لا أعرف إن تألم حسين قبيل رحيله السريع، لا أعرف إن استصرخ أحدا طلبا للمساعدة، لا أعرف إن كان مستيقظا حينها أم نائما.
لم يشعر بشيء.. لكنني لا أتخيله إلا مبتسما في تلك اللحظة، ابتسامته
التي جمعت بين الطيبة والسخرية والذكاء.
حين أفكر في حسين، أدرك كيف يكون الاستمرار بالحياة جزءا من أداء الواجب نحو صديق.