للمرة الأولى منذ ثمان وعشرين عاماً.. أدخل مطار بيروت الدولي للسفر خارجاً، للمرة الأولى أغادر الأراضي اللبنانية.. أغادر المخيم.
لطالما انتظرت هذا اليوم طويلاً... انتظرت تجربة الحياة بعيداً عن بقعة صغيرة بالكاد تتسع لمن فيها... بقعة حدودها مطوقة أمنياً خوفاً من خارجيها..
ها أنا أقترب من المرحلة الأخيرة، لختم الجواز.. مرحلة ترعب أهلي خوفاً مما سيقوله لي الأمن العام.. فخلال انتظار دوري، والدي يحدثني ليطمئن.. أحصلت على الختم أم بعد؟ أتجري الأمور على ما يرام؟ هل قبلوا الجواز وسمحوا لي بالمغادرة؟
وكأنه على معرفة بما سيحصل لي..
فها قد جاء دوري.. وإذ بموظف الأمن يسألني "هل هي المرة الأولى التي تسافرين بها؟ نظرت إليه وأريد أن أقول له ألا ترى أن الجواز خال من أي ختم؟؟ أجبته: نعم هي المرة الأولى.. فقال لي وبكل برودة "نطرتي نطرتي وما سافرتي إلا عهالجواز؟"
أخذت نفساً عميقاً وصمت، فكل ما أردته هو أن تنتهي أموري على ما يرام، فما أريده هو السفر إلى حيث يقيم زوجي..
وكما العادة لم يفهم هذا الآخر أوراقي. سألني عن إقامة مؤقتة، وأنا أملك إقامة دائمة، فحولني إلى المكتب الرئيسي.. هناك انهالت علي الأسئلة المعتادة.. كيف دخلت إلى لبنان وكيف وكيف؟؟ ليكون ردي بأني قد أجبت على هذه الأسئلة سابقاً، أنا أملك هذه الإقامة وهذا الجواز.. انتهت الأسئلة وحصلت على الختم.. ختم الخروج من بلد اللجوء..
ولكن إلى أين... إلى بلد.. أدخل مطاره ضمن خانة الأجانب تماماً كما في لبنان... كم كنت أتمنى أن تكون هذه الرحلة إلى أرضي.. إلى وطن لا أشعر فيه وكأنني كائن متطفل على شعب آخر..
وها هي أيامي الأولى تبدأ بعيداً عن أهلي.. عن مخيمي... عن منزل والداي.
أيام قضيتها في رحاب الكويت.. في منزل يشعرك بالاستقلالية والسرية فهذا الأمر لم ولن يشعر به أي شخص يسكن داخل مخيمات اللجوء في لبنان... فهناك تشعر وكأنك تعيش وجيرانك في نفس المنزل، لا وبل تشاركه الأسرار.. إذ يكفي أن يتحدثوا ليسمع الجار ما قال جاره..
أخرج إلى الشرفة، أنظر إلى الشارع.. مبانٍ منظمة.. سيارات موديلات السنة فقلما أرى سيارة قديمة.. وإن نظرت إلى الأعلى أرى السماء بكل وضوح فلا أسلاك كهربائية تعلو الأسطح والمنازل ولا تمديدات صحية تختلط معها، كتلك التي لا نراها فقط من شرفة منزلنا بل ونصطدم بها أثناء مرورنا بين الأزقة..
الليل هنا مختلف.. ساكن هادئ.. ليل يبحث عنه العشاق.. الشعراء.. الكتاب
ليل ليس كليل المخيم
الليل هناك نهار... وكأن لا أحد يحب النوم.. فترى من تسهر مع عائلتها في دار المنزل.. ومن يلعب ويشرب النرجيلة في الطريق دون أن يكثرت لأشخاص يذهبون إلى النوم مبكراً..
كم تمنيت أن أحظى بليل مثل هذا الليل.. ولكن يبدو أنه ليس كل ما نتمناه يسعدنا.
نعم أنا في منزل ذو إطلالة جميلة.. في بناية لها رقم وعنوان. فكم كنا نسأل عن عنوان منزلنا في المخيم ولا نعرف كيف نحدده.. إن كان في المدرسة أو الجامعة أو مكان العمل وحتى في الأمن العام؛ ففي المخيم المنازل من دون أرقام، وبالكاد يستدل عليها من قربها لأي مركز معروف.
ولكن..
اشتقت لضجة الصباح في منزلي.. اشتقت إلى التأفف من صوت جارتنا تنادي على ابنتها، وإلى وإلى أصوات الباعة في الفجر... اشتقت إلى أزقة أخاف ليلها من قطة أو جرذ يعترضان طريقي، فيلتم الناس من صراخي..
إشتقت إلى ليل ينقصه نور الشمس لنشعر أنه نهار.. اشتقت إلى لبنان...
نعم إلى لبنان.. هذا البلد الذي طالما أجحفت قوانينه الفلسطيني.. إلا أنه البلد الذي نحب...
فوطننا في داخله...
نعم أرضنا محتلة.. أما مخيمنا فلا. مخيم يجمع بين حالتين.. واحدة نضالية ورمزية وثورية على الواقع، وأخرى معيشية صعبة تتمثل فيها أشكال المعاناة كافة..