تخاف أمّي وحدتي، تخاف عليّ من الأشياء التي لا أراها أنا بعينيّ، بل تراها هي بقلبها الدافئ. تخاف أن ترتب سريري صباحا وأن تجد تحت وسادتي رسالة منسيّة. تخاف أن تمرر يداها الناعمتين فوق شعري الأشقر وأن تلمح شعرة بيضاء. تخاف أمّي عليّ من التفكير، من القلق، من لحظة أرمي بها رأسي في حضنها وأبكي بصوت خافت كي لا تشعر. هي تعلم أنّني أبكي، وأنا أعلم أنّها تتجاهل الموضوع كي لا تزيد بكائي. والله يعلم أنّني أصلّي مع كل دمعة، ألف ركعة، كي تظلّ بجانبي.

منذ نحو سنتين، انتقلت للعمل في مخيم برج البراجنة في بيروت وسكنت البيت الذي كبرت فيه أمّي. كان هذا قرارا صعبا بالنسبة لها، أصعب من قرار زواجها، على حدّ قولها. كنت أسمع دعاءها الدائم لي بالعودة إلى البيت، أو بالزواج.

كان الدعاء الثاني يثير انزعاجي ويدعوني دائما لمواجهتها في الكلام. لماذا يرتبط موضوع الطمأنينة والاستقرار عند أمي بالزواج؟ لماذا عليّ أن أرضخ لرغبتها في الحديث مع أي "عريس" كي تطمئن على صحة عقلي، أو صحة مستقبلي، أو حتى صحّة ميولي!

كانت أمي من أجمل بنات المخيم. أتذكّر كلام جدّي عنها وعن طريقتها في إفشال أي خطة زواج كانت تشمّ رائحتها. الاّ أنّها تزوجت من والدي في سنّ الثالثة والثلاثين عندما رفض جدّي أن يتجاوب مع رغبتها في فسخ الخطوبة.

وهكذا تزوجت، وبعد سنة من ارتباطها بالرجل الذي أصبح أبي. ولدت أنا. معظم سكّان المخيم هنا يعرفونني، لأنّني أشبه أمّي كثيرا. الكثير منهم أيضا يدعون لي بالزواج، يقولون لي هذا الدعاء كأنّهم يقدّمون لي معروفا أمام الله. كي لا ينساني دون ارتباط. الاّ امرأة واحدة كبيرة بالسن، كانت تردد دائما دعائها بأن يرزقني الله كل ما أتمناه. كان دعاء هذه الحجّة يريحني..

تقول الأسطورة، أو ما يعرف بكلام الختايرة، بأنّ الحارة التي أسكنها في المخيم حلّت عليها لعنة، إذ أنّ معظم بنات الحارة لم يتزوجنّ. حتى أن البنات اللواتي أنجبتهنّ المتزوجات الساكنات أيضا في هذه الحارة من المخيم لم يأت نصيبهن بعد. لذا كان هذا سببا إضافيا لأمّي بأن تخاف عليّ المكوث في حارتها وبيتها القديم لفترة أطول من هاتين السنتين.

أنا لا أؤمن بالأساطير، وأعلم أن التفسير المنطقيّ لهذه اللعنة، هو الوضع السياسي السيء في لبنان والحروب المتتالية بالتزامن مع فترة بلوغ هؤلاء الجميلات.

في الحرب، لا وقت للحب. هذه العبارة هي التعويذة، أو اللعنة التي حلّت على جيل الثمانينيات جميعهم ذكورا وإناثا وليس على حارتي فحسب.

أستخدم هذه الجملة هنا فقط لكيّ أوضّح لأمّي، وجميع من آمن بتلك الأسطورة أن الحرب تأكل كل شيء بداخلنا حتى فكرتنا عن الزواج والاستقرار، وأن اللعنة حلّت فعلا عندما صدّقنا هذه الخرافة.

بعد الحرب الأهلية في لبنان والاجتياح الاسرائيلي وحروب المخيمات لم يعد هناك شاب يفكّر بأن يبني حياته هنا ويتزوج. اللعنة لم تمس فقط مخيمي وحارتي الصغيرة والمنازل التسعة التي تستند بعضها على بعض، كانت هذه اللعنة على جميع من عاش فترة الحروب في لبنان ونجى من الموت.

إلا أنّني أصدّق وأقول دائما أن الحب موجود في كل مكان وزمان، حتى الموت لا يستطيع أن يلغي شعورنا بالقدرة على الحب. كنت كلّما سألت واحدة من بنات الحارة عن خطط الزواج وعن الارتباط في زمنها، تبدأ بإخباري عن أحاديث أسطحة المنازل، ولقاءات الزواريب بين العشّاق، عن ذلك الحب البريء بينها وبين ابن جيرانها، ووعود الزواج التي انتهت باستشهاده أو هجرته.

أمّا عنّي وعن أبناء جيلي، فنحن لم نعش حربا حقيقة لنعرف مايعنيه الخطر والهرب والموت. بل على العكس، نحن اليوم نعيش التشتت واللجوء مرة أخرى. وربما بقاء هذه اللعنة علينا، سببها هجرة جميع الشباب الى أوروبا والتخلّي عن المخيم، أو حتى التخلّي عن فتاة أحبوها هنا وذهبوا بحثا عن بلاد تحبّهم.

لا تستطيع أمي ولا حتّى بنات الحارة أن يغيّرنّ فكرتهنّ عن هذه اللعنة. أمّا أنا فلا أخاف من عدم الارتباط، ولا أخاف الوحدة التي تخافها أمي، ما يعنيني شيء واحد أتمنّى لو باستطاعتي اقناع أمي ونساء المخيم فيه، أو حتى نساء العالم جميعهنّ أيضا، وهو أن شعور الاستقرار والطمأنينة لا يمتّ للزواج بصلة، وأنّني على العكس أستطيع أن أكون في كامل صحّتي النفسية والعقلية حتى لو تزوجت متأخرة، أو إن لم أتزوج على الاطلاق.

تقرأ أمي هذا النصّ بعد أن أنهيته، تنظر اليّ نظرة غضب وتعلّق على فكرتين فيه، أنّها لم تكن من أجمل بنات المخيم بل كانت أجملهنّ، وأنّها لن تكفّ عن الدعاء لي بالزواج.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد