فلسطين المحتلة - وكالات
لا تزال الندوب واضحة على ظهر يامن الذي يرتاد مدرسة ابتدائيّة في مُخيّم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، ولا يزال يشعر بألم الحروق أحياناً، فيما ساقه اليُسرى مُشوّهة، ما يُعرّضه للسخرية من الأطفال حوله.
أحرقت طائرات الاحتلال يامن وقتلت عائلته في قصفٍ جوّي استهدف منزله وسط القطاع، ليلة عيد الفطر في صيف عام 2014، مُخلّفةً مأساة يعيشها يامن وشقيقته جنى أبد الدهر.
في ذلك اليوم احترق ظهر يامن عقب هجمة شرسة شنّها جيش الاحتلال على مناطق وسط القطاع خلال عدوان صيف 2014، وكان يبلغ من العمر آنذاك (3) أعوام، بينما شقيقته جنى لم تتجاوز الأشهر.
بعد إصابته، شاهد صحافي في وكالة "فرانس برس" الطفل الصغير يصرخ من الألم ويُنادي على عمّته التي كانت تُرافقه في المستشفى، وفي إحدى المرات نادى أمّه، لكنه لم يكن يعلن أنّ والدته قد استشهدت مع (18) فرداً آخرين من العائلة في ذلك الاستهداف الذي جاء من دون سابق إنذار مع منازل وأهداف أخرى في المُخيّم.
اليوم يعيش يامن وشقيقته حياتهما بين عمّه عدنان وزوجة عمّه ياسمين أبو جبر اللذين أصبحا بمثابة أب وأم لهما، وتقول ياسمين "كل الجيران شهدوا على ذلك، كان يامن يبكي كل ليلة ويُريد أن يعرف ما حدث لوالديه."
لمدة عام لم يتوقّف يامن عن سؤالها عن والدته، أي هي وكيف له أن يصل إليها، وتقول هنا "من الصعب تفسير الموت لشخصٍ راشد، فكيف نُفسره لطفلٍ لم يتجاوز عمره السنوات الثلاث؟".
وتابعت حول تفاصيل ما حدث قائلةً: "في 29 تموز/يوليو 2014 حدثت مجزرة في عائلة زوجي"، وكان من بين الشهداء في ذلك اليوم (8) أطفال، فيما يامن وجنة كانا الوحيدين اللذين خرجا من تحت الأنقاض.
اليوم يرتاد يامن مدرسة ابتدائيّة في مُخيّم النصيرات حيث تعمل ياسمين كمُعلّمة، وتقول إنها قامت بكل ما بوسعها ليعيش يامن حياة طبيعية بعد الحرب، كان من المُهم إحاطته وإشعاره بأنه ليس وحيداً، كخطوة أولى لإخباره بالحقيقة.
فيما بعد تحدثت ياسمين مع يامن لتُخبره "أنظر من حولك، أنت لست وحدك، لقد فقد الكثير من الأطفال والديهم وعائلاتهم، لكن لا تزال لديك عائلة، نحن عائلتك."
يقول يامن "أريد أن ألعب كرة، وعندما أكبر أريد أن أصبح شرطيّاً"، يحب المدرسة لكن ليس كثيراً، ويحب الشوكولاتة وليونيل ميسي ولعبة "ببجي" القتاليّة.
تقول ياسمين إنه عندما بدأ بارتياد الحضانة سخر الأطفال منه، وتابعت "في أحد الأيام جاء إلى المنزل وهو يبكي، وقال إنه لا يُريد ارتداء قُمصاناً قطنيّة بعد الآن"، في ذلك اليوم توجّهت ياسمين إلى الحضانة وسألت الأطفال: "من منكم لديه قوى خارقة؟"، لم يتفوّه أحد بحرف، فقالت لهم: "يامن لديه قوّة خارقة، لديه ذراع حديديّة، يُمكنه مُهاجمة صاروخ بيديه العاريتين."
بعد العدوان على قطاع غزة في ذلك العام، بدأ المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بالعمل على ملفات لفتح تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الكيان الصهيوني، وهنا يقول راجي الصوراني الذي يعمل وفريق من المُحامين على ملفات نحو ألف شهيد فلسطيني، إنّ من حق يامن وأقاربه معرفة ما حدث، مُشيراً إلى أنه لم يكن هناك أي سبب على الإطلاق لإيذاء أفراد العائلة، سواء بقصفهم أو جرحهم أو قتلهم.
ويُتابع حديثه بأنه لم يحصل على أي إجابة من جانب الاحتلال، "منذ خمس سنوات وحتى هذه اللحظة لم نتلقَ ولا حتى إجابة واحدة حول هذا الملف"، فيما قال جيش الاحتلال إنه أجرى تحقيقاً أوليّاً، لكن "لم يكن هناك شُبهة تدفع إلى الشك في وجود جريمة جنائيّة"، حسب قول جيش الاحتلال.
تمسح ياسمين دموعها وتقول "أشعر أنني أغرق مرة أخرى في كابوس، لكن في الوقت نفسه أشعر بالفخر عندما أنظر إلى يامن"، يُمازح يامن شقيقته جنى قائلاً إنه يُفضّل بالأحرى أن يكون مثل "سبايدر مان" لأنه "بفضل قوّته الخارقة يُمكنه أن يتسلّق كل الجدران."
ورغم بعض مشاريع الإعمار التي جرت في قطاع غزة بعد العدوان، لا تزال الكثير من الجُدران تشهد على عمليات القتل والإبادة والمجازر التي ارتُكبت في ذلك العام، مُخلّفةً أكثر من ألفي شهيد وآلاف الجرحى، بينهم أطفال ونساء ورجال وشيوخ، ولا تزال جروح وذاكرة من تبقّى من هذه العائلات مُحتفظة بالكابوس الذي قتل آباء وأمهات وأطفال وزوجات وأشقّاء، وترك جروحاً غائرة يستعصي على أي من سكّان قطاع غزة تجاوزها أو نسيانها.