بدا لي في حديثه عن تعلقه بفلسطين وشغفه بالرقص وعن حلمه، وكأنّه يَحكي عبر لغة فريدة، وكأنّ ثمّة من يرقص "الباليه" فوق حبال صوته، ويعزف نغماً فياضاً بهيام الحالة التي يحياها الفنّان الشاب "كرمل سليمان" مواليد ( 2001) مع فنّه ونجاحاته المبهرة والمُفاجئة في آن، وهو الذي حصل قبل أيّام على الميداليّة الذهبيّة بمسابقة " Ballet Beyond Borders_ باليه بلا حدود" التي أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية عن بُعد لهذا الموسم، بسبب فروض جائحة" كورونا".

ابن بلدة الخالصة شمالي فلسطين المحتلّة، الذي تفتح وعيه في دمشق كلاجئ فلسطيني قدم أجداده إلى مخيّم جرمانا، بدت خطوات مشواره باتجاه حلمه، تشبه قفزات راقص "باليه" على رؤوس الأصابع، شديدة الإتقان، مدفوعة بموهبة فيّاضة، وتشجيع كبير من والديه، حتّى عبر الحدود من مكانه، بقفزة ساحرة توجّته بالذهب، وصار حلمه يتخطّى حدود مسرح " البولشوي" الشهير في روسيا، حيث تُقام أفخم وأبهى عروض رقص "الكلاسيك" العالمي  حسبما عبّر في حوار مع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين".

قفزته الكبيرة وضعته في  مشوار العالمية

في العاشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، تلقّى "كرمل" اتصالاً من صديقه الفنان الراقص "أحمد جودة" في أمستردام، وأعلمه بفوزه بالميدالية الذهبيّة بمسابقة "باليه بلا حدود"، التي تُقام في الولايات المتحدة، و شارك فيها "كرمل" من مكانه في سوريا عبر إرسال تسجيل يحتوي لوحة راقصة، ومستلزمات الإشتراك.

يقول "كرمل" في حوار مع بوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ مشواره نحو المسابقة، بدأ منذ أن أخبره صديقه "أحمد" عنها وعرض عليه المشاركة، بعد أن عرّفه بها وبأهميتها، ليقبل "كرمل" بذلك، ويتكفّل أحمد بكافة الإجراءات.

 واستمرّ انتظار النتيجة لمدّة شهر كامل، شعر خلاله الفنان الشاب بمضامين التحدّي الكبير، فهو الآن يشارك في مسابقة عالميّة تعتبر من أهم مسابقات رقص "الكلاسيك"، و تضم فنانين من دول العالم كافة وعلى مستوىً عالٍ وتدربّوا في أكبر معاهد الرقص العالميّة.

رغم ذلك، استطاع الحالم الشاب، انتزاع الذهب بموهبته، وهو الذي بنى أساسات احترافه من الإمكانيات البسيطة المتوفرة في سوريا بمضمار فن الرقص مقارنة بكبرى المعاهد العالمية، حسبّما عبّر في حديثه.

يصف "كرمل" شعوره بعد تلقيه خبر فوزه بالمركز الأوّل، ويقول "بقيت لنحو ساعتين بحالة اشبه بالتلف العصبي، غير مصدق الننتيجة وخصوصاً أنّها أهلّتني لخوص المسابقة العالميّة في الصين بشهر شباط/ فبراير القادم".

من روضة الأطفال إلى أصغر راقص في فرقة " إنانا"

يتحدث "كرمل" لـ" بوابة اللاجئين الفلسطينيين" عن بدايته في فنّ الرقص، ويقول: "بدأت منذ الصغر في روضة الأطفال، وكان عمري حينها من 4 إلى 5 سنوات، وظهرت موهبتي في حفلات نهاية العام التي تقيمها الروضة".

موهبة مبكّرة لاحظها أبَواه اللذان لعبا دوراً بارزاً في تنميتها، عبر تشجيعه ودفعه إلى الأمام ويضيف :"في كل حفلة كانا يشاهداني أرقص فيها كانا يشجعاني على الاستمرار، حيث لمسا موهبتي وشغفي بالرقص وما يولده ذلك الشغف من إبداع وشيء غير عادي، رغم أنّها حفلات بسيطة".

في عمر صغير، دخل "كرمل" بوابة الاحتراف، مع فرقة " إنانا" وهي إحدى أهم فرق المسرح الراقص على مستوى سوريا. ولم يتجاوز عمره حينها 8 سنوات، حين اصطحبه صديق لوالده إلى مركز الفرقة. يذكر "كرمل" تلك اللحظات في حديثه ويقول: "كان مقر الفرقة في مدينة معرض دمشق الدولي القديمة، حيث يوجد مسرح وقفت عليه السيّدة فيروز".

طفل لا يعرف الكثير عن الرقص الاحترافي، وما لديه فقط موهبته وشغفه، مكّناه من انتزاع إعجاب خبيرة الرقص الروسيّة " البينا بيلوفا" التي يكنّ لها بالكثير من الفضل، ويقول في ذلك : "وقفت أمام الخبيرة الروسيّة، وكانت المرّة الأولى لي أقف أمام خبيرة بهذا الحجم، وحين رأت أدائي، أعطتني موعداً للمجيء إلى التمرين، وفي اليوم التالي اتصلوا بي وقالوا لي قبلناك بالفرقة".

وهنا أصبح "كرمل سليمان" أصغر راقص بفرقة "إنانا" بعمر 8 سنوات، في حين أنّ أصغر راقص كان في ذلك الوقت يتجاوز العشرين من عمره، حسبما أكّد "كرمل" الذي دخل في ذلك، إلى عالم الرقص الاحترافي، على يد الخبيرة "بيلوفا" وبتحفيز منها صار يحب الرقص "الكلاسيك" وانغمس  في عالمه، حتّى صار الرقص أداته الأولى وربّما الوحيدة للتعبير عن ذاته ومشاعره وما يريد البوح به  ويقول: "عبر الرقص الكلاسيك بإمكاني التعبير عمّا بداخلي، وأستطيع أن أرقص بأي مكان أريده دون تردد أو خجل" يقول "كرمل "ويضيف:" بدأت اتعرف على رقص الكلاسيك وأنواعه، أحببته ودخلت أعماقه واختبرت مشاعر الرقص، وحينها درسوني أهم اساتذة الرقص الموجودين في سوريا، وتعمقت أكثر".

الرقص فنّي وموهبتي..وطموحي أعظم المسارح 

يقول "كرمل" إنّ الرقص بالنسبة له هو كلّ شيء في الحياة، ويصر خلال حديثه، على عدم اعتبار هذه الجملة تقليدية، ويوضح أنّ :"أصحاب المواهب عادةً ما يقولون أنّ موهبتهم كلّ حياتهم، ولكن الرقص بالنسبة لي شيء آخر، فأنا متفرّغ للرقص بالكامل وهو لغتي الأساسية وشغلي الشاغل".

تعلّق وشغف، دفعه لولوج المعهد العالي للفنون المسرحيّة _ قسم الرقص، الّا أنّه وقبل دخوله إلى المعهد، عمل على تنمية مهاراته عبر مشاهدة مقاطع " يوتيوب" لفرق كلاسيكّة عالمية، وخصوصاً في فترة ذروة الحرب التي شهدتها سوريا وأوقفت النشاط الفني والثقافي.

يقول " كرمل": " توقفت عن التدريب لمدّة عامين، بسبب ظروف الحرب التي أوقفت النشاط الفني والثقافي، وخلالها لم يدربني أحد، فبقيت لمدّة عامين بلا تدريب، بل أرقص لوحدي وأتمرّن، وأشاهد تسجيلات لأهم الراقصين، ووالدي صنع لي " بار" للتدريب في غرفتي، وصرت احلم بأن يراني أحد ويتبناني كي أصل إلى أهم مسارح الكلاسيك في العالم".

ويضيف :" حلمي أن أرقص على مسرح البولشوي أمام آلاف الاشخاص، وأقدم عرض "صولو" راقص مثل  بحيرة البجع، سليبينغ بيوتي، و باكيتا،  والعديد من العروض العالمية الكلاسيكية وأن أكون بطلها ويصفق لي الجمهور".

1-1.jpg

الموهبة لا تقتصر على نوع اجتماعي وهذه رسالتي لأهل بلدي

يصرّ "كرمل سليمان" على أنّ الرقص موهبة عميقة، ولا تقتصر على الإناث، ويقول :"وكل ما أريده ، أنّ  يفهم العالم بإنّ الرقص موهبة وفنّ، واي أحد يستطيع أن يؤديه وغير مقتصر على البنات فقط، بل هو للشباب والبنات، فهو حالة من القلب والوجدان".

وحول الرقص يقول:" هناك جملة تقال ومفادها ( أي شخص يستطيع الرقص)  لأنّ الرقص هو حالة تفرّغ عبرها ما بداخلك، هي أداة للراحة، أي شخص فينا يستطيع أن يرقص، يحرك يده أو قدميه أو جذعه ورأسه ولو بحركة بسيطة، هو أداة لإخراج المشاعر الحقيقية التي بداخلك، إن كنتً في المنزل أو اي مكان، بإمكانك أن ترقص اي نوع من الرقص".

ويضيف :" رغم أن هناك من ينتقد أن يحترف شاب الرقص، وخصوصاً "الباليه" حيث الفكرة السائدة عنه أنّه مخصص للبنات، الاّ أنّ هذه الفكرة خاطئة، فالرقص موهبة  وخصوصاً الكلاسيك، فهو فنّ غير سهل وليس أيّ أحد يستطيع اتقانه".

وعلى الرغم من الأفكار السائدة حول الرقص للشبّان، الّا أنّ " كرمل" لم تعترضه  أيّة عوائق اجتماعية من محيطه، ويقول: أهل منطقتي شجعوني، ولم يعترض أحد طريقي، بل على العكس تلقيت تشجيعاً كبيراً، وخصوصاً من والدي ووالدتي اللذين قدما لي كل شيء يستطيعون تقديمه، والدي كان يأخذني إلى التمرين وينتظري أحياناً في الخارج تحت المطر".

ويوجّه "كرمل" رسالة إلى أهل بلديه فلسطين وسوريا وكل العالم ويقول :"أريد  رسالتي أن تصل لاهل بلدي وكل انحاء العالم، ومفادها أنّ شاب متواجد في سوريا، حلمه أنّ يرقص مع أهم راقصي العالم، وأن يصل لأهم المسارح العالمية، وأن يدرس بأهم اكاديميات الباليه، وهذا الحلم سيكون حقيقة وساحاول قدر الامكان أن أحققه، وسأبلي بلاءً حسناً في مسابقة الصين التي ترشحت اليها، وسأكون على قدر المسؤوليّة".

ويختم بالكثير من المشاعر الفيّاضة تجاه فلسطين ويقول: "أنا افتخر بكلمة فلسطين لوحدها، فكيف وهي بلدي، انا أشتهي أن أرى بلدي وأحيانا أبكي لأني لم أرً بلدي ولم اشم هواءها" وخلال حديثه عن فلسطين وغبطته بما أنجزه، ردد أكثر من مرّة :"لا استطيع التعبير بالكلام عن كل ما يجول في داخلي، لو أننا نتحدث وجها لوجه لكنت أدركت ما أريد قوله" وكأنّه أراد أن يتحدّث بلغة الرقص، وهي اللغة التي أبدع فيها " كرمل سليمان" وفي طريقه نحو مجد فنّي يطمح اليه، ليكون من الفلسطينيين النادرين الذين خاضوا في هذا الفن الراقي، وتركوا فيه بصمة عالميّة.

 

فيديو لكرمل:

 

خاص/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد