لم يكن تصريح المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" "فيليب لازاريني" عن إمكانية تفويض مؤسسات بديلة لتقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين بدلاً عن الوكالة تعبيراً عن نوايا مستقبلية مبيتة، بقدر ما هي استكمال لوجهة سياسية تواطأت فيها وكالة "أونروا" مع الأطراف الدولية المعادية لحقوق اللاجئين الفلسطينيين والمتحالفة مع عدوهم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم تغب هذه التوجهات عن قرارات "أونروا" وتدابيرها المتخذة على مختلف الصعد، ولكن ما أضافته هذه التصريحات فعلياً هو فضح الاستخدام الدائم لعنوان "الأزمة المالية للأونروا" كأداة لشطب الحقوق السياسية للاجئين.
إن بحث إمكانية نقل عمليات تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين من "أونروا" لأي جهة أخرى يشير بقدر كبير من الوضوح إلى أن المعضلة ليست في عدم توفر الموازنات أو المال اللازم لتقديم الخدمات، ولكن في تعارض هذه الخطوة مع تجسيد الوكالة لاعتراف أممي بالطبيعة السياسية والمسؤولية الدولية عن عملية تهجير الفلسطينيين من بلادهم، بما يعنيه ذلك من تخل عن الالتزام الدولي تجاه حق هؤلاء اللاجئين في العودة لديارهم التي هجروا منها.
فالموازنات اللازمة لتقديم الخدمات متاحة، شريطة أن تكون الوكالة بعيدة عن الاعتراف بالحقوق، في منحى منحاز بوضوح من قبل ممولي الوكالة لجريمة التهجير ومرتكبيها والساعين إدامتها وتصفية قضية اللاجئين.
أما قبول "أونروا" لهذه الشروط والأمريكية والأوروبية منها على وجه الخصوص، فلا يشير إلا أنها تقبل العمل ببرنامج عمل أمني "إسرائيلي" يهدف لحصار وترهيب أي موقف ملتزم تجاه حقوق اللاجئين ونضالهم، أو معارض لجرائم الحرب الصهيونية ضدهم.
وفي ذات الاتجاه يمكن فهم توجهات الممولين الدوليين تجاه اللاجئين الفلسطينيين، فالمال المتوفر لتقديم منح لمئات المؤسسات المحلية والخارجية النشطة في مجتمع اللاجئين، ضمن برامج ومشاريع تعطي هذه المؤسسات أدواراً إغاثية نيابة عن "أونروا" أو بالشراكة معها، ما هو إلا أداة في سياق برنامج يوظف هذه المؤسسات المحلية كأدوات في خدمة رؤية مموليها.
وهي الرؤية ذاتها التي تربط الإغاثة والخدمات الاساسية التي تقديمها للاجئين، بشروط وسياقات يفرضها الممول الدولي على أدواته/ شركائه المحليين، والفارق هنا أن تقديم الخدمات من قبل هذه المؤسسات هو خضوع لرؤية الأطراف الدولية الممولة بأن ما يقدم للاجئين من خدمات منحة إغاثية لا التزاماً سياسياً من هذه المجتمع الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين.
كما أن هذا المسار يتضمن تحويل دور هذه المؤسسات من القيام بمهام تنموية مجتمعية تتعلق بحماية مجتمع اللاجئين وتطوير قدراتهم وخدمة تطلعاتهم بما فيها تلك التطلعات السياسية المرتبطة بحقوقهم، الى وكلاء محليين لفرض انضباط جموع اللاجئين لشروط الممولين.
ما سبق ليس جديداً على القارئ وعلى اللاجئين الفلسطينيين والمناصرين لحقوقهم، فالمؤكد أن هناك مسعى من قبل من هجرهم ومن سانده وحالفه لشطب حقوقهم وإغلاق ملف جرائم التهجير وتغطيتها للأبد.
ولكن المطروح يتعلق بتطور يشكل قفزة سلبية في استعداد وكالة "أوانروا" والمسؤولين فيها للتعاون مع هذا المسعى والعمل في خدمته، وما تعنيه هذه الاستعدادية من تجاوز للموقف الفلسطيني وتقدير بضعف قدرته على التأثير أو المنع والردع لمثل هذه التوجهات.
وفي جانب آخر، لعله أكثر خطورة هناك تلمسٌ لما خلقته سياسات التمويل من تحولات في دور المؤسسات الأهلية الفلسطينية كما أطراف عدة في المعادلة الفلسطينية يتصل باستعدادها واعتيادها للعب دور الوكيل المحلي الخاضع والممتثل لأجندة التمويل الدولي على حساب الانحياز الواجب لإرادة اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم واحتياجاتهم الحقيقية.
إن دراية مرتكبي جريمة التهجير وحلفائهم والمتواطئين معهم بضعف الموقف الفلسطيني الرسمي، والموقف العربي، واستعداد بنى محلية على لعب أي دور يوكل لها، يشكل دافعاً أكبر لتنفيذ برنامج التصفية المعادي وإعطائه الزخم.
والحال هذه، فإن الاحتجاج والاستنكار والتنديد لن يكون إلا ضرباً من الخطابة التي سيستمر برنامج تصفية قضية اللاجئين في تجاوزها.
واستعادة القدرة على مواجهة وردع هذا البرنامج تتطلب التزاماً حقيقياً تجاه حقوق اللاجئين، وفي مقدمتها حقهم في العودة والتعويض، وفي توفير سبل الحياة الكريمة وضمان الحقوق الاقتصادية لهم لحين عودتهم، فدور العمل الدبلوماسي الفلسطيني والعربي والمناصر للاجئين هو استعادة المبادرة دولياً فيما يتعلق بحق اللاجئين في العودة، وضمان حشد موقف مضاد لهذه السياسات، لا يقف فقط عند استصدار قرار جديد من الجمعية العامة للأمم المتحدة يلزم أونروا بدورها وواجباتها.
وفي المحور الرئيسي للجهد المنحاز لحقوق اللاجئين في مواجهة برنامج التقويض، تكمن ضرورة صياغة برنامج سياسي يضع العودةَ كحق وممارسة على رأس أولويات الفعل الفلسطيني ومحوراً لتعريفه، وهذا الحد الأدنى من الالتزام بإرادة الجماهير الفلسطينية التي يجب أن ينصاع لها ويعبر عنها ويخدمها الفاعلُ الرسمي الفلسطيني كما الفاعل الفصائلي والمجتمعي.