لم تنته النكبة الفلسطينيّة ومآسيها منذ حدوثها عام 1948، بل لاحقت الشعب الفلسطيني بأشكالٍ وفصولٍ مختلفة هندسها الاحتلال "الإسرائيلي" لقهر الإنسان الفلسطيني، وذلك من أجل سرقة أرضه وتهجيره منها، كشرطٍ أساسي لتوطين اليهود واستمرار تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين في حكايةٍ بدأت فصولها حتى قبل عام 1948.

 الذكرى الـ75 للنكبة الفلسطينيّة مناسبة لتسليط الضوء على مشاريع الاحتلال التهويديّة التي تُلاحق الفلسطيني حتى بعد رحلة التهجير والتشرّد، لتُسلب أرضه تحت وطأة قوانين أعدّتها حكومات الاحتلال المتعاقبة خدمةً لليهود المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 والضفة الغربية، وتمكينهم من أرضٍ مسروقةٍ بقوّة سلاحٍ يلاحق الشعب الفلسطيني يومياً تحت ذرائع مختلفة.

في هذا التقرير، نلقي الضوء على التهجير القسري الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني ما بين النكبة والحاضر، وخاصّة مشاريع تهجير الفلسطينيين من مسافر يطّا في الخليل، ومن قرية الولجة قرب بيت لحم كنموذجٍ حي لهذا الاضطهاد المتواصل.

"مسافر يطّا"، تجمّع فلسطيني يتكون من 12 قريّة يقع في مدينة "يطا"، ويعاني سكّانه على الدوام من خطر التهجير القسري، بسبب إقامة الاحتلال لـ10 مستوطنات وبؤر ومناطق تُعرّف وتُصنّف وفق قوانين الاحتلال مناطق "إطلاق نار (918)" بغرض التدريب العسكري.

تقع المسافر بين 14 و24 كيلومتراً جنوب شرق محافظة الخليل، وتعد ثاني أكبر مدنها من حيث عدد السكّان والمساحة، وجميع التجمّعات المهدّدة بالتهجير تقع جنوب شرق المسافر.

الهدف توطين اليهود وطرد الفلسطينيين

يقول رئيس مجلس قروي مسافر يطّا نضال يونس لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: إنّ الاحتلال لا يريد أي وجود فلسطيني في منطقة مسافر يطّا، وبالتأكيد كل ذلك من أجل السيطرة عليها وإعلانها منطقة أمنية لتطهيرها واستبدال سكّانها الفلسطينيين بقطعان المستوطنين، لذا تتصاعد مساعي الاحتلال في تهجير أهالي المنطقة.

حكاية مسافر يطا بدأت مع نكبة فلسطين، بعد أن احتل الاحتلال جزءاً كبير من أراضيها وضمّها إلى كيانه لدى احتلاله فلسطين في 15 أيّار/ مايو 1948.

 يتحدث يونس عن مشاريع الاحتلال التي تهدف لسرقة أراضي مسافر يطّا وتهجير سكّانها مؤكداً أن هذه المشاريع في البداية لا تختلف عن المشاريع الأخرى التي تستهدف المناطق المشابهة لمسافر يطّا وخاصّة في مناطق ما تُسمى (c)، حيث عمد الاحتلال في تهجير أهالي المسافر إلى مجموعة من الأساليب، وذلك نظراً لأهمية المنطقة جغرافياً وجيوسياسياً، فهي تقع في نهاية سلسلة جبال الخليل، أي يبدأ منها انخفاض مستوى الأرض بشكلٍ كبير من 900 متر إلى قرابة 450 أو 480 متراً فوق سطح البحر، ولذلك كانت مشاريع الاحتلال مبكراً تستهدف هذه المنطقة التي يعتبرونها "درع صحراء النقب" أي بمثابة كنزٍ حقيقي يضع فيها الاحتلال المصانع الكبيرة والمواقع العسكريّة.

6-1.jpg

بالأرقام: هذا ما سرقوه من مسافر يطّا

مسافر يطّا التي تضم 38 تجمّعاً سكانيّاً وتعاني من هشاشةٍ في خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتيّة، كان يبلغ عدد سكّانها ما لا يقل عن 3 آلاف فلسطيني، إلّا أنّ مشاريع التهجير والتشريد فعلت فعلها في تقليص عددهم.

يقول يونس: فيما يُسمى مخطّط "آلون" الذي هدف إلى المزاوجة ما بين الاستيطان والبعد العسكري، ومع بداية العام 1980 أقام الاحتلال أربع مستوطنات في مسافر يطّا لخلق حاجز ديمغرافي وعزل هذه المسافر عن بقية المناطق، وعمد في هذه المرحلة إلى خلق قوانين جديدة وأعلن السيطرة على 15 ألف دونم من الأراضي الجبليّة بحجّة أنّها "متروكة وغير محروثة"، وهذه الدونمات أقيمت عليها المستوطنات الأربعة المذكورة، وتباعاً أعلن في المنطلقة المبسّطة في المسافر السيطرة على 35 ألف دونم كمنطقة عسكريّة مغلقة تحتوي على 12 قريّة فلسطينيّة جرى تهجير سكّانها لهذا الغرض، ومن أجل تهجير الناس من هذه القرى والتجمّعات اتبع الاحتلال منذ الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي سياسة هدم المنازل القديمة في القرى والبلدات، ما دفّع سكّان هذه المناطق الذين شرّدوا منها للسكن في الكهوف الموجودة في المسافر وصولاً إلى العام 2000.

منذ 2000 إلى 2020 تضاعف حجم الاستيطان في مسافر يطا

يضيف يونس وهو أحد سكّان تجمّعات مسافر يطّا: منذ عام 2000 وصولاً إلى العام 2020 تضاعف حجم المضايقات والاستهداف من قِبل سلطات الاحتلال، حيث تضاعف حجم الاستيطان بشكلٍ كبير، وأصبح المستوطنون كالعصابات المنظّمة، فتم مضاعفة الأراضي التي سجّلت للمستوطنين، وتم تفعيل قرار حكومة الاحتلال بأنّ هذه المناطق هي "مناطق إطلاق نار" ما يعني أنّ للجيش "الحق في إخلاء سكّانها الأصليين"، وأصبحت المناطق شبه معزولة وجرى تضييق الخناق عليها بهدف إرهاب الفلسطيني ودفعه لترك أرضه، فيما تم السيطرة على 90 بالمئة من الأرض من قِبل المستوطنين على الأراضي المجاورة لهذه المناطق، ومنذ عام 2020 تم بناء 7 بؤر استيطانية رعويّة ظهرت على هذه الأراضي تباعاً، وكل بؤرة مكوّنة من مجموعة من الخيم والمستوطنين المنظّمين كعصابة ومعهم مجموعة من رؤوس الماشية، وطبعاً جيش الاحتلال يوفّر لهم الحماية للرعي في أي مكانٍ يرونه مناسباً ويعيثون الفساد في قرى وبلدات الفلسطينيين.

6-2.jpg

كم بقي من الأرض للفلسطينيين؟

  يوضّح يونس: من أساس 65 ألف دونم أصبح اليوم ما هو مسموح للفلسطيني أن يستخدمه ويعيش فيه لا يتعدّى 20 ألف دونم، وهذا يعني أنّ النكبة فعلياً ما زالت مستمرة، فكل شيء حدث في عام 1948 يتكرّر الآن ولكن على يد أشخاص آخرين، وللتحديد أكثر فإنّ المستوطنين في هذه المناطق المسلوبة من شعبنا لديهم عصابات أشبه بعصابات "الهاغاناة" و"الأرغون" تضم العشرات من المستوطنين في صفوفها إلى جانب امتلاكهم سيارات رباعيّة الدفع، ونذكر أنّهم هاجموا قرية صغيرة جداً اسمها "مغاير العبيد" بشكلٍ وحشي وارتكبوا فيها مجازر بشعة حتى المواشي لم تسلم منهم، إذ كان عددهم ضعف عدد سكّان القرية نفسها، وحينما جاءت شرطة الاحتلال وفّرت الحماية للمستوطنين وليس لأهالي القرية، بل جاءت الشرطة في ذات الليلة واعتقلت جميع الشبّان الذين حاولوا التصدّي لإجرام هذه العصابة، وذلك بحجّة الاعتداء على المستوطنين.

عدد الفلسطينيين في مسافر يطا عام 1980 كان 5 أضعاف عددهم اليوم

 تفاصيل النكبة تتكرس في قرار محكمة الاحتلال عام 2022 والقاضي باعتبار هذه المناطق عسكرية مغلقة وللجيش حق التصرّف فيها كمناطق "إطلاق نار"، فهنا التاريخ يعيد نفسه والنكبة بسرقة الأرض والتهجير تتواصل، يقول يونس: كل هذه القوانين والتشريعات لا تأتي عبثاً، لا سيما وأنّ كل ما يجري في مسافر يطّا هو ذاته ما حصل في عام 1948، لأنّ السياسة "الإسرائيليّة" هي واحدة لا تتغيّر ولا تتبدّل وتقوم على مبدأ واحد هو تهجير الفلسطينيين من جميع المناطق، وبالأرقام فإنّنا نؤكّد أنّ عدد الفلسطينيين في المسافر كان في العام 1980 خمس أضعاف عدد السكّان اليوم في المسافر، وهذا يختصر كل ما يجري.

ووفق بيانات الأمم المتحدة، فإنّ نحو 1,200 شخص، من بينهم 580 طفلاً، عرضة لخطر الإخلاء والتهجير الوشيك من تلك التجمعات لتبدأ رحلة لجوءٍ جديدة.

6-3.jpg

أمّا قرية الولجة التي تعتبر من أقدم القرى في فلسطين، فلها حكاية أخرى غير بعيدةٍ في فصولها عمّا جرى ويجري في مسافر يطّا، إذ تمتاز الولجة بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وطبيعتها الخلابة، وكثرة الينابيع والعيون على أراضيها، وهي قرية مهجّرة تقع في الجنوب الغربي من مدينة القدس على أرض مساحتها الأصلية تتجاوز الـ17 ألف دونم، ونشأت فوق رقعة من أقدم جبال القدس.

ولأجل كل ذلك، ولمكانها المميّز، تُواجه قرية الولجة مُخططات الاحتلال التي تأتي على حساب أراضي أهالي القرية الفلسطينيين من خلال المُصادرة والهدم والتضييق اليومي لدفعهم على تركها والسيطرة على مقدّراتها لصالح المستوطنين.

أبرز مخططات سرقة الولجة

الباحث المتخصّص في مجال الاستيطان ببيت لحم المهندس حمزة حلايبة، تحدّث لبوابة اللاجئين الفلسطينيين عن أبرز مشاريع الاحتلال التي تستهدف قرية الولجة منذ سنواتٍ طويلة، يقول: أولاً مشروع نقل حاجز الولجة الذي يقع شمال غرب بيت لحم قرب قرية الولجة على طريق قرية المالحة المهجّرة في القدس، وهو مخصّص للمركبات التي تحمل اللوحات "الإسرائيليّة" الصفراء من المستوطنين ويفصل بيت لحم عن القدس، ومنذ حوالي 7 أعوام أقرّت سلطات الاحتلال نقل هذا الحاجز من حدود القدس إلى داخل حدود بيت لحم والولجة بمسافة 2.5 كم، وبالتالي السيطرة على آلاف الدونمات من الأراضي الخصبة وعيون الماء وأهمها "عين الحنية"، حيث أقامت فيها سلطات الاحتلال "حديقة وطنية" ضمن مشروع توسيع حدود بلدية "القدس الكبرى".

6-4.jpg

أمّا المشروع الثاني، بحسب الباحث حلايبة فهو مشروع استكمال مقاطع جدار الفصل العنصري: منذ أن بدأت سلطات الاحتلال في عام 2004 ببناء الجدار الفاصل حول مناطق الضفة الغربيّة وعلى أراضي بيت لحم، أصدرت مئات الأوامر العسكريّة لتنفيذ المسار المعلن للجدار على الأراضي الفلسطينيّة، واستمر هذا النهج خلال السنوات الأخيرة، حيث لا يزال هناك مقاطع من الجدار الفاصل في مدينة بيت لحم (قيد الإنشاء أو مخطط لها) وبنسبة أكثر من 50% من طول المسار المخطط في بيت لحم، وكان آخر هذه المشاريع في منطقة بيت جالا (كريمزان) ومنطقة الولجة.

هدم متواصل بذريعة "عدم الحصول على ترخيص"

يستشهد حلايبة بالأمر العسكري "الإسرائيلي" رقم (32/4/ت) مع تمديد سريان للمرة الرابعة الصادر عام 2013، إذ يقضي هذا الأمر بمصادرة مساحة 134 دونماً من أراضي بيت جالا والولجة لاستكمال بناء الجدار الفاصل حول مستوطنة "هار جيلو" المقامة أعلى مدينة بيت جالا، وتم تنفيذ هذا المقطع من الجدار الفاصل على هذه المنطقة المصادرة.

أمّا حول المشروع الثالث الذي يعد من أخطر مشاريع الاحتلال، فهو مشروع هدم البناء الفلسطيني ومنع التوسّع العمراني، إذ يوضّح حلايبة أنّه بموازاة العمل على مصادرة الأرض الفلسطينية وتكثيف البناء الاستيطاني والوجود اليهودي في الضفة الغربية، استمرت سلطات الاحتلال في هدم الأبنية الفلسطينيّة الجديدة وتوزيع إخطارات وقف البناء على الأبنية قيد الإنشاء، بذريعة البناء ضمن مناطق تخضع للسيطرة "الإسرائيلية" أو بذريعة "عدم الحصول على ترخيص بناء" منها أو وجود ذرائع أمنية أخرى.

يتركّز مشروع هدم البناء الفلسطيني ومنع التوسّع العمراني في منطقة القدس، وتقدّر عدد المساكن التي هدمت فيها منذ عام 1967 وحتى العام الماضي بحوالي 1859 مسكناً، وتضرّر جرّاء ذلك أكثر من 9 آلاف فرد فلسطيني، وفي مناطق الضفة تشير الإحصاءات إلى أنه قد تم هدم أكثر من 4700 منزل منذ العام 1987، أمّا على صعيد بيت لحم، فقد أصدرت سلطات الاحتلال مئات الأوامر العسكرية بغرض الهدم أو وقف البناء للفلسطينيين ضمن المحافظة، وقد تركزت هذه الأوامر العسكرية في منطقة الريف الغربي للمحافظة، بحسب حلايبة.

6-5.jpg

يتابع حلابية: قامت جرافات الاحتلال مُؤخّراً وخلال العام 2018 بهدم العديد من المنازل والمنشآت التي تعود للفلسطينيين في مناطق بيت جالا والولجة والخضر وبتير وقرى الريف الغربي، واستهدفت آخر هذه الحملات العسكرية قرية الولجة شمال غرب مدينة بيت لحم، حيث هدمت سلطات الاحتلال خمسة منازل وذلك بتاريخ 3/9/2018 بحجة "البناء دون ترخيص" ضمن مناطق (ج)، وتتعرّض قرية الولجة إلى حملات متواصلة من التشديد والهدم ومنع البناء خلال العقود الثلاثة الأخيرة حيث يذكر أهالي القرية أنه تم هدم أكثر من 80 منزلاً ومنشأة في القرية منذ ثمانينيات القرن الماضي.

نحو 11 ألف فلسطيني كانوا يعيشون في الولجة خلال التسعينيات.. اليوم لا يتجاوز عددهم 3 آلاف

توضّح إحصائيات مختلفة أنّ عدد السكّان في قرية الولجة وهم من اللاجئين الفلسطينيين، قدّر في العام 1998 بـ11,754 نسمة، لكنّ هذه الأرقام ليس لها علاقة بما هو عليه الأمر اليوم، فتُشير أحدث أرقام التعداد العام للسكّان والمساكن بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أنّ عدد سكّان قرية الولجة يقدّر بحوالي 2،945 نسمة، موزعين ما بين الذكور والاناث، ويبلغ عدد الأسر 390 أسرة، وعدد الوحدات السكنيّة 388 وحدة.

يؤكد حلابية أنّ النكبة الفلسطينيّة ما زالت مستمرة وما يجري في الولجة صورة من صور هذه النكبة المستمرة، وسياسة التهجير قائمة، وأكبر دليل على ذلك (منع البناء، وتوسّع سياسة الهدم، والتضييق على السكّان، والحصار على القرية من كل الاتجاهات)، وبعد أنّ كانت مساحة القرية قرابة 18 ألف دونم أصبحت اليوم قرابة 4 آلاف دونم فقط معظمها تحت السيطرة "الإسرائيليّة" ومعزولة خلف الجدار، كما أنّ الكثير من أهالي الولجة انتقلوا للعيش في المُخيّمات الفلسطينيّة وخاصّة في مُخيّم الدهيشة وبلدة الدوحة في بيت لحم.

أحمد حسين – صحفي فلسطيني/بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد