أصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله، التقرير الشهري الثالث الذي يرصد ما تعرّض له القطاع الثقافي الفلسطيني في في قطاع غزة نتيجة حرب الإبادة "الإسرائيلية" المستمرة على القطاع، منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر.
ورصدت الوزارة خلال تقريرها الذي نشرته، أمس الثلاثاء، ما تعرض له القطاع الثقافي من تدميرٍ واعتداءات طالت المثقفين الفلسطينيين والممتلكات الثقافية بعد ثلاثة أشهر من حرب الإبادة على قطاع غزة، ومواصلة اعتداءات الاحتلال على كل مقدّرات الشعب الفلسطيني.
وبحسب التقرير، فقد المشهد الثقافي عدداً من المبدعين في مختلف المجالات عُرف منهم حتى اللحظة 41 استشهدوا، من بينهم 4 أطفال، وتضرر عدد من المراكز الثقافية بشكل كلي أو جزئي عرف منها 24 مركزاً، كما تضرر حوالي 195 مبنىً تاريخي، منها 10 مساجد وكنائس، وتضررت 8 دور نشر ومطابع، و3 استوديوهات وشركات إنتاج إعلامي وفني.
وزير الثقافة الفلسطيني، عاطف أبو سيف، قال: "إن حرب الرواية والسردية التي تقوم بها دولة الاحتلال من أجل استهداف وجود شعبنا هي استكمال لجريمة النكبة التي لم تتوقف منذ قرابة ستة وسبعين عاماً، فالاحتلال يستهدف المباني التاريخية والمواقع التراثية والمتاحف والمساجد والكنائس التاريخية، بالإضافة إلى المؤسسات الثقافية من مراكز ومسارح ودور نشر ومكتبات عامة ومحلات بيع وجامعات ومدارس وجداريات فنية، وكتب، ويقوم باغتيال الشعراء والكتاب والفنانين والمؤرخين".
وأضاف أبو سيف: أن الحرب التي يشنّها الاحتلال على الشعب الفلسطيني تطال البشر والحجر والشجر والمكان والزمان بماضيه وحاضره ومستقبله في محاولة بائسة لطمس الهوية الوطنية ومحو الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني وتدمير كل شواهد وجوده وارتباطه بالأرض، مؤكداً أن الثقافة الفلسطينية هي الجين الوراثي لهويتنا الوطنية وهي جوهر وأساس سرديتنا التاريخية ومرافعتنا الحقوقية والسياسية.
وشدد على أنه رغم صعوبة الكشف عن الحقائق الشاملة والدقيقة حول الخسائر التي تكبّدها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يوضح التقرير الذي أعده فريق الوزارة واقع الممتلكات الثقافية والتراث المادي وغير المادي في غزة حيث تعرّض المشهد الثقافي في القطاع إلى اعتداءات متعدّدة ومركبة النتائج.
اقرأ/ي أيضاً فلسطين تخسر مبدعين وفنانين كانوا جزءاً رائعاً من صورة غزة الجميلة
ويشمل التقرير نبذة عن حياة شهداء القطاع، وعن الأماكن المستهدفة من قبل طائرات الاحتلال وهي أماكن تاريخية ومسيحية وإسلامية ومراكز ثقافية كان لها أثر كبير في المشهد الثقافي الفلسطيني في قطاع غزة.
ومن الشهداء الفاعلين في المشهد الثقافي، الذين ارتقوا على مدار الأيام التسعين الأخيرة؛ الشاعر سليم النفار، والشاعر الفنان الشاب يوسف دواس، والممثل كوميدي والمدون علي نسمان، والشاعر عمر فارس أبو شاويش، والكاتبة والشاعرة هبة أبو ندى، والفنانة إيناس السقا المتخصصة في الفنون البصرية والمسرح، والفنان الرسّام الشاب محمد سامي قريقع، والفنان التشكيلي ثائر الطويل، والكتاب عبد الله العقاد ونور الدين حجاج ومصطفى الصواف وعبد الكريم حشاش "سادن التراث الفلسطيني"، والفنان طارق أحمد ضبان، والخطاط والفنان مهند أمين الأغا، والشاعر والباحث التربوي شحده البهبهاني، والفنانات التشكيليات هبة زقوت وحليمة عبد الكريم الكحلوت ونسيمة أبو شعيرة، الفنان الشعبي محمود الجبيري، والمصور مروان ترزي، والطفلتين شام أبو عيد (8 سنوات) وليلى عبد الفتاح الأطرش (8 سنوات) من فرقة للدبكة الشعبية، وغيرهم.
النخب الثقافية والعلمية في غزة من بنوك الأهداف "الإسرائيلية"
ومن النخب الغزية التي استهدفها جيش الاحتلال "الإسرائيلي" خلال الشهور الثلاثة الماضية في القطاع، الأديب والأكاديمي رفعت العرعير، أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، الذي عمل خلال فترة حرب الإبادة على النشر باللغة الإنكليزية عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول ما يرتكبه الاحتلال من مجازر، لرسم صورة لكل العالم عن تفاصيل الحياة اليومية تحت القصف، ونقل قصص الشهداء، وذلك قبل استهدافه في السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2023.
وكان العرعير (44 عاماً) قد تلقى تهديدات بالتصفية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لكنه لم يتوقف عن النشر، إذ كتب في إحدى تدويناته على منصة "إكس" بتاريخ 4 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، جاء فيها "نحن مغمورون بطبقات سميكة من البارود والإسمنت"، وتبعها بتدوينة أخيرة: "لا يزال الكثيرون محاصرين في الشجاعية، من بينهم بعض أطفالي وأفراد عائلتي".
وفي الثاني من الشهر الماضي، استهدفت آلة القتل "الإسرائيلية" الدكتور سفيان تايه رئيس الجامعة الإسلامية في غزة، الذي يحمل درجة الأستاذية في الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، والحاصل على جائزة عبد الحميد شومان للباحثين العرب (جائزة عربية للبحث العلمي) في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، كما صنفته جامعة "ستانفورد" الأميركية في عام 2021 ضمن أفضل 2 بالمائة من الباحثين حول العالم.
ومن النخب العلمية التي استهدفها الاحتلال، الخبير في القانون الدولي سعيد طلال الدهشان، صاحب كتاب "كيف نقاضي إسرائيل؟"، الذي رسم من خلاله خريطة طريق لما هو مطلوب عمله فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً لمقاضاة كيان الاحتلال، واستشهد الدهشان هو وعائلته في غارة جوية استهدفت منزلهم بمدينة غزة في 11 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
وكذلك تم استهداف عميد كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية، الدكتور تيسير إبراهيم، أستاذ الفقه، الذي استشهد مع كل أفراد أسرته إثر غارة جوية على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
واستهدفت طائرات الاحتلال في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، منزل البروفيسور محمد عيد شبير، أستاذ علم الأحياء الدقيقة ورئيس سابق للجامعة الإسلامية في غزة، فاستشهد مع أفراد أسرته.
وفي مطلع الشهر كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، استشهدت نائبة عميد كلية العلوم في الجامعة الإسلامية أستاذة الفيزياء ختام الوصيفي، وزوجها عميد كلية التربية الأسبق في الجامعة ذاتها الدكتور محمود أبو دف، وأفراد من عائلتهما إثر غارة جوية استهدفت منزلهما.
ومساء 31 من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، استشهد الدكتور سعيد أنور الزبدة، رئيس الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية بغزة، برفقة ثمانية من أفراد أسرته في قصف استهدف مربعاً سكنياً بحي الزيتون في مدينة غزة.
تاريخ غزة الحضاري في مرمى الاستهداف "الإسرائيلي"
لم يكتف الاحتلال "الإسرائيلي" بقتل آلاف الأطفال والأمهات والشيوخ، ولم يكتف بتدمير المدن والمستشفيات فوق رؤوس من فيها، بعشرات آلاف الصواريخ والقذائف، ولم يكتف بتهجير السكان العزل إلى العراء والجوع والذل، ولم يكتف بقتل عشرات الصحافيين وأهلهم، كل هذا وغيره ولم يكتف من الدم ومن كل أحقادها المعلنة، ولم يكتف بالإبادة الجماعية وجعل الحياة غير ممكنة في قطاع غزة، فعمل ساعياً لإبادة رموز التاريخ والثقافة الفلسطينية، وقتل الذاكرة بالتزامن مع الإبادة الجماعية...
وفي نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، أفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بأن جيش الاحتلال استهدف ودمّر نحو 200 موقع ومعلم أثري وتاريخي، من أصل 325 موقعاً ومعلماً في القطاع.
ومن أهم هذه المعالم الأثرية والتاريخية التي دمّرها القصف "الإسرائيلي" خلال الشهور الثلاثة من عدوانه على القطاع، المسجد العمري الكبير، الذي تعرض للقصف الشهر المنصرم، وهو يعتبر من أقدم مساجد غزة وأكبرها، وكان هذا المسجد الذي يعود جزء منه إلى العصر المملوكي يتألف من ثلاثة طوابق وتزيد مساحته الكلية على ثلاثة آلاف متر مربع ويتسع لأكثر من ألفي مصل.
كما تعرض مسجد السيد هاشم، وهو أحد المساجد التاريخية المهمة في مدينة غزة، للدمار بشكل جزئي. ويقع في حي الدرج بمساحة تقدر بحوالي 2400 متر مربع. وهو يعتبر من أجمل وأقدم مساجد غزة.
أيضاً، تعرض مسجد الظفر دمري الأثري الذي دُمر كلياً نتيجة القصف "الإسرائيلي"، ويعود إلى الحقبة المملوكية، حيث أسسه الأمير المملوكي، شهاب الدين أحمد بن أزفير الظفر دمري، في القرن الثامن الهجري وتحديداً سنة 762هـ. هذا المسجد الذي تبلغ مساحته 600 متر مربع، اشتهر باسم "القزدمري" لدى عامة الناس، ويوجد فيه قبر شهاب الظفر دمري.
كما استهدف الاحتلال كنيسة القديس برفيريوس العريقة، التي تعد أقدم كنيسة في غزة. تقع في حي الزيتون، وهو من أقدم أحيائها، وبُنيت العام 425م على يد القديس برفيريوس الذي سُميت باسمه، وتضم الكنيسة الآن ضريحه. ويكشف التصميم الأفقي أن الكنيسة تتكون من قاعة كبيرة ذات سقف تعلوه قبب متقاطعة على شكل صليب، ترتكز على أعمدة حجرية.
ودمرت الكنيسة البيزنطية وتقع في بلدة جباليا، شمالي القطاع، ويزيد عمرها عن 1600 عاماً، وتعود إلى العام 444 ميلادي، وهي من أبرز المعالم في بلاد الشام عامة. وتضم الكنيسة نقوشاً وزخارف مختلفة، منها الحيوانية والنباتية والهندسية. وتشمل الزخارف الحيوانية الأسود والغزلان والأسماك البحرية، إذ تشير هذه الأنواع إلى الاستقرار والهدوء الذي ساد الحياة المسيحية في قطاع غزة.
ومن الأمكنة الأثرية، قصر الباشا (دار السعادة) الذي يعتبر أحد معالم العمارة الإسلامية وتعرض للدمار الجزئي، ويقع في حي الدرج في الجهة الشرقية من البلدة القديمة. ومقبرة دير البلح، التي تعرضت للدمار الكلي، وتعتبر من أهم المقابر التاريخية والأثرية في غزة، حيث تعكس تاريخ الشعب الفلسطيني على مدى عصور عديدة. وتنسب هذه المقبرة إلى ما يسمى "ملوك الفلسطينيين" وتتكون من مجموعة بارزة من التوابيت الفخارية ذات الشكل البشري.
وتشكل هذه التوابيت أكبر مجموعة تم اكتشافها في فلسطين على الإطلاق، وتشبه التوابيت الفرعونية المصرية.
وتعرضت دار السقا الأثرية، لأضرار جزئية، في حي الشجاعية بوسط السوق في الضاحية الشرقية لمدينة غزة، وقد بُنيت منذ القرن السابع عشر ميلادي في العام 1661 في عهد السلطان محمد الرابع بن السُلطان إبراهيم. وبناها أحمد السقا، أحد كبار التجار آنذاك، والذي يعود أصل عائلته إلى الجزيرة العربية من مكة المكرمة لتصل إلى عقيل بن أبي طالب ابن عم النبي. وعرف البيت كأول منتدى اقتصادي في فلسطين، تم ترميمه أول مرة من قذيفة تعرض لها خلال عام النكبة 1948.
كما دمّر القصف "الإسرائيلي" كلياً النصب التذكاري للجندي المجهول والحديقة الخاصة به، حيث تم تجريفها بالكامل، وهي تُعد من أهم معالم قطاع غزة، وذات مكانة كبيرة، حيث ترمز لنضال الشعب الفلسطيني، وبني النصب العام 1956 إبان الإدارة المصرية لقطاع غزة، تجسيداً "لتضحيات الشعبين الفلسطيني والمصري ودفاعهما عن الحقوق الوطنية وعزة وكرامة الشعبين". ودمر الاحتلال "الإسرائيلي" النصب مع احتلاله لقطاع غزة العام 1967، وكانت السلطة الفلسطينية قد أعادت إعماره في العام 2000.
ومن المقرات التي فاخَر جيش الاحتلال بتدميرها، مقر المجلس التشريعي الفلسطيني يوم 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. وهو من المباني القديمة في غزة، وذات المكانة الخاصة، أنشئ في العام 1958، بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعقب انتخاب أول مجلس تشريعي للسلطة الفلسطينية العام 1996، تم اتخاذ المبنى مقراً له.
ومن أبرز المواقع والمعالم التي تعرضت للقصف "الإسرائيلي" كذلك، موقع البلاخية (ميناء الأنثيدون) شمال غرب مدينة غزة القديمة، وتل المنطار شرق مدينة غزة، وتل السَّكن جنوب مدينة غزة، وتبة 86 في القرارة جنوب القطاع، ومسجد الشيخ شعبان، ومقام الخضر في دير البلح (وسط)، إضافة إلى مسجد خليل الرحمن في منطقة عبسان في خانيونس (جنوب)، وحمام السُمره وسط مدينة غزة، آخر وأبرز معالم الحقبة العثمانية، وسوق القيسارية في حي الدرج أحد أعرق أحياء المدينة وتميزه منازل يعود تاريخها لمئات السنين، إضافة إلى مركز المخطوطات والوثائق القديمة في مدينة غزة.