الأردن - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
مقال: تامر خورما
يوما عاديّاً، كأيّ يوم ألفت رتابته وحفظت إيقاعه عن ظهر قلب، تعيش عمّان الذكرى التاسعة والستّين للنكبة، وكأنّ شيئ لم يكن! باستثناء فعاليّة خطابيّة تقرّر تنظيمها مساء الخامس عشر من أيّار في خيمة التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، التي يقيمها ائتلاف الأحزاب القوميّة واليساريّة بمقرّ حزب الوحدة الشعبيّة، وبضعة نشاطات فنيّة وثقافيّة دأبت منتديات النخب على تنظيمها. لا تطلّ عليك شوارع المدينة بأيّة إيماءة تتماهى مع الوجع المستمرّ منذ نحو سبعة عقود.
وفي اليوم التالي دعت بضعة نقابات مهنيّة إلى مهرجان خطابي آخر، غاب عنه معظم نشطاء الأوساط الشبابية، الذين طالما كانوا المبادرين إلى تنظيم مختلف الفعاليّات والنشاطات السياسيّة، بل والاحتجاجات الشعبيّة التي شهدها الأردن على مدى السنوات الماضيّة. اليوم يبدو المشهد مختلفا للغاية، حيث تقتصر المشاركة الشعبيّة والشبابيّة في المهرجانات الخطابيّة التي دعت إليها الأحزاب السياسيّة وتلك التي نظّمتها النقابات، على بضعة شخوص يمكن وصفهم بـ "الوجهاء"، الذين تركوا الشارع وشأنه، وآثروا إحياء ذكرى النكبة في صالوناتهم السياسيّة وقاعاتهم المغلقة.
تحملك الخطى إلى أزقّة المخيّمات، علّها تفصح عمّا يعتمل في قلوب ساكنيها، تبدأ تجوالك في مخيّم الوحدات، لتدرك منذ الوهلة الأولى، حالة الاغتراب القابضة على رئة المخيّم، فقد هجره معظم من لجأ إليه ذات حسرة. ترى، أما عادت المخيّمات تشكّل رمزا للجوء، وعهداً مقدّسا بانتزاع حقّ العودة؟
يرتدّ إليك الجواب من مخيّم البقعة أكبر مخيّمات اللجوء وهو حسير، فمنذ إنشاء شارع الأردن، في العام 2005، لربط العاصمة عمّان بمدينتيّ إربد وجرش شمال المملكة، والمخيّم فقد وحدته الجغرافيّة، وكأن الأسفلت ينخر في مكانته الرمزيّة، لدرجة أن كثيرا من النخب آنذاك اعتبرت الأمر قراراً سياسيّاً لتفريغ المخيّمات من سكّانها، ومحو كلّ معلم رمزيّ يرتّل ترنيمة اللجوء.
الأردن، الذي يضمّ عشر مخيّمات تعترف بها الأونروا رسميّاً، يعدّ حالة خاصّة، فمعظم اللاجئين الفلسطينيّين فيه يتمتّعون بالجنسيّة الأردنيّة، والبقاء في المخيّم هو خيار وليس حالة اضطراريّة كما هو الحال في أماكن أخرى، ولكن ألا يشكّل وجود هذه المخيّمات، ضرورة رمزيّة مرتبطة بحقّ العودة؟ وكيف تغيب زقاقها عن دائرة التأثير السياسيّ، بل وعن أجندة التنظيمات والأحزاب التي تشكّل امتداداً لمنظّمة التحرير؟!
طيّب، لنترك المخيّمات وشأنها، كيف تصرّ شوارع العاصمة عمّان، على المشهد اليوميّ الاعتياديّ، في ذات الوقت الذي تنتفض فيه عواصم غربيّة إحياء لذكرى النكبة المستمرّة؟!
ألم يكن ذات ثورة منظّمة لتحرير فلسطين قارعت العالم بأسره لانتزاع صفتها الاعتباريّة كممثّل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ترى من يمثّل الفلسطينييّن في الأردن، وكيف تغيب بصمات النكبة عن شوارع مدينة يشكّلون نسبة عالية من سكّانها، ليقتصر إحياء هذه الذكرى العنيفة على القاعات المغلقة؟
حتّى أنّ معظم الصحف والمواقع الإلكترونيّة الإخباريّة المحليّة، لا تحمل من أوجاع النكبة سوى تاريخ صدورها، وثلّة مقالات نثرت على الطرف البعيد عن عناوينها الرئيسة، التي تسلّط الضوء على المنتدى الاقتصادي العالمي، المزمع عقده في منطقة البحر الميّت في التاسع عشر من الشهر الجاري، لضمان أمن وهيمنة ورفاهيّة الاحتلال!
إنّها نكبة أخرى يا عمّان!
ولكن لماذا هذا الصمت المطبق على شوارع المدينة وإعلامها، وهي التي كانت منذ نشأتها ترتّل صلوات القدس وعذابات أشقّائها في فلسطين؟ أهو اليأس، أم السأم اليائس من اجتراح الأوجاع؟!
بعض النشطاء عبّروا بصراحة عن حالة اليأس التي اعترتهم ممّا وصفوه بتكرار ترديد الشعارات البرّاقة، دون فعل حقيقيّ، يرتقي بالفعاليّات السياسيّة إلى دائرة التأثير، لخلق ضغط شعبيّ يحمل السلطات الأردنيّة على تغيير سياساتها فيما يتّصل بالعلاقات التطبيعيّة مع الاحتلال الصهيوني.
البعض الآخر لم يخف "كفره" بالنخب والقوى السياسيّة، التي تتّخذ من كافّة المناسبات وسيلة لتحقيق مصالح فئويّة ضيّقة، بعيداً عن ملامسة هموم الناس، الذين استعرت آلامهم حتّى انقلب البعض إلى كتل جليديّة لا تحرّكها أعتى النكبات. هو اليأس الذي حوّل المدينة إلى ساحة رتابة لامبالية!
هنالك من لايزال يطارد الأمل، ويتمسّك بإيمانه المطلق بفلسطين الأرض والشعب، ولكن دون أن يملك من أمره شيئاً، أمام الأبراج العاجيّة التي شيّدتها النخب بعيدا عن الشارع، لتكرار ذات المعزوفة القديمة التي ينخرها "الروتين"، وترديد ذات الشعارات التي انتزعت منها البرامج العمليّة لتحقيق ما يمكن لمسه في مواجهة السياسات الرسميّة الخارجيّة.
ولكن في نهاية الأمر، يصرّ أهالي عمّان على حقّ العودة المقدّس، ففلسطين التي شرّدوا منها مازالت تسكن الوجدان العمّاني، رغم هذا الصمت القاتل، الذي يحتلّ الشارع الأردني، ورغم استمرار عبث السلطات بمستقبل وأحلام الناس. وهنا تحتار الغالبيّة في الإجابة على التساؤل المحوريّ: ما العمل؟!
المفارقة تكمن فيما تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي، التي تجعلك تخال أن الثورة على وشك الانفجار والقضاء على معاهدة وادي عربة المشؤومة، وأن المتظاهرين يدكّون أسوار المنتدى الاقتصادي، الذي سيحقّق للاحتلال أطماعه التوسعيّة، في فرض هيمنته الاقتصاديّة على المملكة، عبر التحكّم بالطاقة نتيجة لاتّفاقيّة استيراد الغاز التي أبرمها الأردن مع الكيان خريف العام الماضي. ولا ننسى مشروع ناقل البحرين، الذي أنفق المستعمر الأبيض الملايين، لفرض الهيمنة الاقتصاديّة الصهيونيّة من خلاله.
هي نكبة عمّان، بل ونكبة الشعب الرازح تحت وطأة الظلم على امتداد المنطقة العربيّة. تسعة وستّون سنة عجاف، ومازالت النكبة مستمرّة، وعمّان يقتلها الوجع، ولكن يقتلها الصمت أكثر.