تقديم:
عاش غسان كنفاني 36 عاماً، كرسها في مسيرة من الإنتاج الأدبي والفكري الغزير والعمل السياسي الدؤوب في موقع نضالي متقدم، قبل أن يبتر الغزاة الصهاينة هذه المسيرة بالاغتيال، لكن الأثر الذي تركه امتد طويلاً رغم غيابه جسدياً بفعل جريمة الاغتيال البشعة في الثامن من تموز/ يوليو 1972.
وفي مقاربة غسان كمناضل وفاعل سياسي، وأديب، فإننا نقارب سيرة اللجوء الفلسطيني أولاً بشخص هذا اللاجئ الفلسطيني وما واجهه من اقتلاع وتشريد وتمرد على كل هذا، واشتقاقه مساره النضالي الذي شكلت كتاباته ركناً أساسياً فيه، وأيضاً إنتاجه الأدبي كسيرة للجوء الفلسطيني وتأريخ حي لتفاعل جموع اللاجئين الفلسطينيين مع نكبة وطنهم وتشريدهم عام 1948، وما قدمه كأطروحة سياسية تجيب عن سؤال النكبة واللجوء بالتحدي والتمرد والثورة.
قد يكون أحد الأسئلة الاكثر شيوعاً حول غسان كنفاني، هو عن تخيل مسيرته الأدبية لو لم يبترها الصهاينة باغتياله، ولكن هذا السؤال يغفل العنصر الأكثر محورية الذي قاد غسان لهذا الإنتاج الغزير والعمل الجاد والدؤوب، لقد كان غسان مُبشرا بالثورة وبالتضحية الفردية في سبيل خلاص هذه الجموع التي هجرها العدوان والاستعمار، معبراً عن ذلك بوضوح في مقولته: "قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه".
لم تكن كلمات غسان تعبيراً صفيقاً، ولكنه كإنسان ومناضل، عاش لما نظر له، ليشابه أدوار البطولة التي حملها بعض من أبطال روايته، حتى أن أعظم روايات غسان هي تلك التي لم يكتبها، حياته ونضاله واستشهاده، فقد كتبها بكل ذرة من كيانه وبدمه الذي قدمه على مذبح الحرية والنضال لأجل عودة وحرية هذه الجموع التي انتمى لها حتى الموت.
المحور الأول:
الوعي الشخصي بتجربة اللجوء
ولد غسان كنفاني في عكا، شمال فلسطين، في التاسع من نيسان/إبريل عام 1936م، غسان هو الوحيد بين أشقائه ولد في عكا، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الإجازة والأعياد في عكا مدينتها الأصلية التي كان والده مضطراً لتركها من أجل العمل في يافا، وكان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير بيافا التي كانت مدرسة متقدمة نسبياً عن نظيراتها، ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات، فلقد عرفت أسرته مبكراً وقع جرائم الغزاة الصهاينة وما شكلته من تهديد للفلسطينيين ووجودهم، ويمكن القول: إن هذه الأسرة عرفت تجربة اللجوء مبكراً، فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب والصهاينة التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين، ليضطر والده إلى إعادة أسرته لعكا باعتبارها أكثر أماناً نسبياَ بعد الاعتداءات التي مارستها العصابات الصهيونية على أهالي يافا، وبجانب معايشة غسان شخصياً وأسرته لتجربة الاصطدام بالتهديد الصهيوني، فقد شكل عمل والده كمحام منخرط في المرافعة عن قضايا وطنية مجالاً لاكتساب غسان مزيداً من الوعي حول هذا التهديد.
أقامت العائلة في عكا من أواخر عام 1947 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر نيسان/ إبريل 1948 حين بدأ الهجوم الصهيوني على مدينة عكا، وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عدد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان فوصلوا إلى صيدا، ولعل الاختصار المعبر لألم هذه المرحلة في تاريخ عائلته وعائلات فلسطينية أخرى اختصرها غسان بجملة: "وحين وصلنا إل صيدا صرنا لاجئين" وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديماً في بلدة الغازية قرب صيدا في أقصى البلدة على سفح الجبل، واستمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوماً في ظروف قاسية إذ إن والدهم لم يحمل معه إلا النذر اليسير من النقود فقد أنفقها في بناء منزل في عكا وآخر في حي العجمي بيافا وهذا البناء لم يكن قد انتهى العمل فيه حين اضطروا للرحيل.
رحيل جديد انتظر غسان وأسرته، ليضاف سطر جديد لسيرته كلاجئ، حيث اضطرت الأسرة لمغادرة الغازية في رحلة طويلة صوب دمشق، حيث استقرت الأسرة في منزل قديم من منازل دمشق، وعايشت الأسرة بداية صعبة في هذه المرحلة، قبل أن تتحسن أحوالها بمعاودة والده لنشاطه في المحاماة، وعمل غسان وهو ما يزال يدرس في تصحيح البروفات في بعض الصحف وأحياناً التحرير، واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.
وكانت تشجعه على ذلك وتأخذ بيده شقيقته التي كان لها في هذه الفترة تأثير كبير علي حياته. وأثناء دراسته الثانوية برز تفوقه في مادتي الأدب العربي والرسم وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين الفلسطينيين وبالذات في مدرسة "الأليانس" بدمشق والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي، وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي. وذلك بالإضافة إلى معارض الرسم الأخرى التي أشرف عليها.
يمكن النظر لتجربة غسان في اللجوء كتجربة متميزة نسبياً أسهمت في إكسابه وعيه، فمن جانب قد حظي قبل النكبة والتشريد بتعليم متميز، ولم يكن غسان كنفاني ممن عاشوا حياتهم في خيام اللجوء وأزقة المخيمات مثل غالبية اللاجئين الفلسطينيين، ولكن وعيه الذي منحته إياه تجربته المبكرة مع التهديد الصهيوني، واستكماله لتعليمه، ومهنة والده وتجربته الوطنية، كل هذه العوامل أسهمت في خلق وعي فريد باللجوء ومأساة شعب فلسطين، ساهمت إلى جانب تجربته السياسية الشخصية وانتمائه المبكر لحركة القوميين العرب في صياغة أطروحته السياسية حول التمرد على واقع التشريد وما خلقته النكبة.
غسان يشق الدرب
شكل انتماء غسان لحركة القوميين العرب محطة مهمة في مساره، وإن لم تكن نشازاً عن مسار وطني عام قد بدأ في التشكل لدى شريحة من الشباب الفلسطيني الذين اكتسبوا قدراً من الوعي قادهم للبحث عن أدوات تشكل ردهم على مأساة النكبة.
انكب غسان على النشاط السياسي في حركة القوميين العرب بدافعية كبيرة، حيث مارس نشاطه السياسي إلى جانب عمله ودراسته الجامعية، ليعقب ذلك بانتقاله للكويت أواخر عام 1955 حيث عمل مدرساً، وانتقل لمحطة جديدة في حياته الأدبية والسياسية، وأيضاً في وعيه حيث اندفع للقراءة بنهم شديد، موسعاً دائرة معرفته وإدراكه بواقع شعبه وبالعالم من حوله وبالنظريات الاجتماعية والسياسية والأدب وتجارب الشعوب.
في الكويت بدأ غسان في تحرير إحدى الصحف الكويتية، مشتقاً عموداً للتعليق السياسي الجاد والنقدي، يمهره بتوقيع «أبو العز» والذي لفت إليه الأنظار بشكل كبير، خصوصاً بتلك الآراء النقدية التي رصد بها انحراف نظام عبد الكريم قاسم في العراق بعد زيارته للعراق عام 1958، مقدماً قراءة لم تكن رائجة حول وضع الحكم لدى هذه النظم التي قدمت خطاباً ثورياً، ما أعطى انطباعاً واضحاً حول جرأته النقدية، وفي مرحلة الكويت كتب غسان أيضاً أولى قصصه القصيرة «القميص المسروق» والتي نال عليها أولى جوائزه الأدبية.
غادر غسان الكويت إلى بيروت عام 1961، حاملاً معه مرض السكري الذي أصابه في تلك المرحلة، وفي بيروت التي كانت عاصمة ثقافية عربية تفاعلت فيها تيارات مختلفة وعاشت حراكاً ومخاضاً سياسياً كثيفاً آنذاك، كان المجال الأوسع لإنتاج غسان وعمله سياسياً وأدبيا، حيث عمل في مجلة الحرية (1961)، التي كانت تنطق باسم حركة القوميين العرب، مسؤولاً عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها (ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية، وأسس لاحقاً مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وترأس غسان تحريرها، كما أصبح المتحدث الرسمي باسم الجبهة إلى جانب عضويته بمكتبها السياسي.
في هذه المرحلة من النضج الأدبي والسياسي لغسان، تحول الأديب والقائد السياسي إلى عنوان لتفاعل من الصحفيين والناشطين والجهات السياسية مع الملف الفلسطيني، وأجرى عشرات المقابلات واللقاءات ونسج علاقات للحركة الوطنية الفلسطينية مع مختلف قوى التضامن حول العالم، مسهماً في تدشين مرحلة جديدة للعمل الفلسطيني.
وقد أصدر غسان حتى استشهاده ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني.
في أعقاب اغتياله تمّت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة، وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربع مجلدات، وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً، وتمّ إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة، اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين.
الأعمال الأدبية لغسان التي كتبها بين الأعوام من 1956 وحتى استشهاده عام 1972، شكلت إلى جانب قيمتها الأدبية الكبيرة، نموذجاً لتشكيل الوعي الفلسطيني والعربي حول فلسطين، وموضعاً للتأثير خارج النطاق العربي والفلسطيني حيث ترجمت عدد من أعماله للغات أجنبية، وأسهمت بجانب نشاطه وتجربته السياسية في خلق سردية جديدة حول فلسطين وشعبها وقضيتها واضعاً الكفاح والقتال لأجل العودة كبديل عن الاستسلام للتهجير والتشريد والمعاناة.
المحور الثاني:
اللاجئون والمخيم في أدب غسان
" لك شيء في هذا العالم، فقُمْ"
يقسم عدد من الباحثين في الأدب الفلسطيني مراحل تطور هذا الأدب لثلاث مراحل رئيسية وهي مرحلة النكبة ثم اللجوء والمعاناة ثم الثورة والتمرد، وقد شكل غسان نقطة استعصاء على هذا التقسيم، لا بانتمائه لإحدى هذه المراحل زمنياً، ولكن بانحيازه في أدبه وموقفه للتمرد والثورة.
فلعل أبرز ما يميز الإنتاج الأدبي لغسان هو مواكبته للتطورات والتغيرات التي عايشها الفلسطيني، ليس بمنطق سردها فحسب، ولكن أيضا من خلال مشاركة غسان فيها كإنسان مسيس وابن لمجتمع اللاجئين الفلسطيني في كونه ضحية للجريمة الكبرى المتمثلة في النكبة، ومتحملاً للمعاناة في مرحلة اللجوء، وثائراً صانعاً للتمرد والتغيير في مرحلة الثورة التي شكلت نقطة تحول اجتماعي وسياسي فاصلة في تاريخ الفلسطينيين.
آمن غسان بمصير مختلف للفلسطينيين وبشر به، وعمل على عملية تجذير لوعي مختلف، حريص على كسر عملية تصوير المخيم كمرادف للبؤس والشقاء والضياع والشتات، باتجاه تفاعل حي مع عملية التمرد على هذا الواقع، والتي أحالت المخيم الفلسطيني كعنوان لإنتاج الفعل الثوري ومحور لعملية تغيير الواقع الفلسطيني.
عناصر أساسية شكلت محاور لتميز أدب غسان في سرديته عن اللجوء الفلسطيني
- قراءة جادة للنكبة:
في دراسته عن ثورة 1936 أو في أعماله الأدبية عمد غسان للغوص تحليلاً في العوامل التي قادت للهزيمة العربية ومن ضمنها عوامل الضعف الفلسطيني، مقدما سردية مختلفة عن النكبة، لا تقتصر على تفسيرها بلحظة هزيمة الجيوش العربية، أو سردية وقوع خيانة لحظية في أيام الحرب، ولكن بالأساس لطبيعة البنية السياسية والاجتماعية العربية والفلسطينية، وهيمنة الإقطاع والبرجوازية وسلوكها الانتهازي، وحضور قوي لقيم وممارسات شكلت ثغرات في جدار الصمود الفلسطيني، وساهمت في إضعاف قدرة الشريحة الأوسع من الجماهير الفلسطينية على الصمود والبقاء في أرضها وصولاً للحظة التهجير.
- تصور مختلف عن المخيم:
لم يقرأ غسان المخيم في أدبه باعتباره تجسيدا للبؤس والشقاء المجرد، بل بيئة خصبة لعوامل الغضب والتمرد الذي أنتجه هذا الشقاء الفردي والجمعي والأرضية التي تنكشف فيها الأطراف المهيمنة ومسببات الهزيمة، فلم ينكر أدب غسان بؤس الخيمة وواقع الحرمان واللجوء، ولكنه قرأه كعامل تفاعل معه الإنسان الفلسطيني بالثورة والتمرد.
- البحث عن الخلاص الجماعي:
في روايته "رجال في الشمس" وكمكون أساسي في العديد من أعماله، قارب غسان فكرة الخلاص الفردي بالهروب من جحيم اللجوء إلى المنافي البعيدة أو إلى الانتهازية والبحث عن المصالح الفردية، مبيناً مآلات هذا الهروب، لا بوصفه فعلاً مداناً قيمياً، ولكن باعتباره وصفة للهلاك حتى الفردي، فمن لم يدقوا جدران الخزان واختاروا طرق الصحراء ماتوا مختنقين، فيما قدم غسان في أعماله مشاهد مرسومة بعناية للمخيم كبوتقة صهر تعيد تشكيل هوية جامعة للاجئين الفلسطينيين ترفض الاستسلام للشقاء وتدرك وحدة مصيرها وتتحرك باتجاه صناعة مصير مختلف.
- الثورة نبوءة:
شكل التنظير للثورة والتمرد على بؤس اللجوء والهزيمة الملمحَ الأكثر مركزية في أدب غسان، باعتبار الثورة هي المخرج من هذا البؤس، وإعادة تعريف الذات الفلسطينية كولادة جديدة للإنسان وللهوية الوطنية، ليعيد بذلك غسان صياغة صورة المخيم باعتباره مصدراً لإنتاج فكرة التمرد الثوري الفلسطيني، ومنبعاً للمقاتلين والثوار من أبطال قصصه الذين التحقوا بالثورة ومارسوا التمرد بصفته الجماعية، واللافت هنا أن غسان لم يكن يطلق نبوءة فحسب بل يقدم تاريخياً اجتماعياً تفصيليا1ص بلونه الأدبي للتفاعلات التي كانت تقع بالفعل وتنتج هذه التحولات الكبرى في هوية اللجوء والمخيم والإنسان الفلسطيني.
فأم سعد التي عاشت حياة "الذل" ورأت أن المُخيّم يعكس صورة بائسة لحياة الفلسطينيين الذين خرجوا من أرضهم، ومع انطلاقة الثورة التحق بها ابناها سعد وسعيد وأخذ يتدربان في معسكراتها ويعودان إلى البيت في آخر النهار، لتختلف تماماً مشاعر أم سعد وتنتقل من اليأس والإحباط بعد هزيمة الـ 67 إلى الشعور بفخر يستند لتحول حقيقي يقوده جيل جديد من اللاجئين الفلسطينيين الذي مثل ابناها نموذجاً عنه.
غسان وتأريخ اللجوء
انحاز غسان كإنسان وأديب ومفكر لمجتمعه، وحاول رصد تحولاته وتوثيقها والسرد عنها باعتبارها تفاعل الأشخاص العاديين من أهالي المخيمات الذين مثلوا المجموع الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، مستخدماً مسارات حيواتهم كأداة للتحليل وسرد التحولات والعوامل المؤثرة، وهو بذلك كان يشتق طريقاً آخر مختلقاً عن السرد الرسمي المركزي، ليمارس التأريخ الاجتماعي مستنداً لوقائع من هم في أسفل الهرم الاجتماعي لا ذلك التأريخ التي تسقطه السردية الرسمية مركزياً، وقد عمد غسان لجمع شهادات أهالي المخيمات من خلال لقاءات مستمرة بهم غذت دراسته النقدية عن ثورة 1936، وشكلت مادة لرواياته ولسرديته عن تاريخ اللجوء الفلسطيني.
المحور الثالث:
غسان السياسي وقضية اللجوء:
يقول مهند عبد الحميد عن غسان كنفاني «كان غسان مقاتلاً والقتال يحتمل الموت، وكان لاجئاً والعودة تحتمل الموت، وكان ملتزماً والالتزام يفترض لقاء الموت، في مسرحية الباب «يقول عماد» لا أريد الطاعة ولا أريد الماء أي أن الموت عطشاً أفضل من التوسل إلى مستبد، والموت دفاعاً عن الكرامة الإنسانية أفضل من الحياة بذل، فلا معنى لحياة بلا كرامة.
تنطوي فلسفة الموت عند غسان على مبدأ المفاضلة: أنت لا تستطيع اختيار الحياة، لأنها معطاة لك أصلاً والمُعطَى لا اختيار فيه، اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي، وخاصة إذا تم اختياره في الوقت المناسب، وقبل أن يفرض عليك في الوقت غير المناسب، والوقت المناسب الذي عناه غسان هو تحدي الإنسان للظلم والاستبداد ورفضهما إلى المستوى الذي يجعل الموت محتملاً، كثمن لتلك المفاضلة.
الالتزام السياسي لدى غسان محوره وجوهره إنساني، أي التزام تجاه مجموع بشري وقع عليه ظلم تاريخي أورثه معاناة وحياة مريرة وبؤساً وشقاء مقيما،ً ولكن هذا الانحياز الإنساني كانت ترجمته بحثاً جاداً ودائماً عن عوامل استمرار هذا الشقاء وسبل الخلاص منه، وعلى هذه الأرضية قدم دائماً ذلك الربط السياسي الذي يرفض اعتبار مظاهر البؤس في حياة اللاجئين والمشاكل التي عانوا منها محض مأساة، بل ظواهر نتجت عن أسباب سياسية، يقول غسان: «عندما باشرت التدريس، واجهت مصاعب جمة مع الأطفال الذين درّستهم في المخيم. كنت أغضب دائماً لدى مشاهدتي طفلاً نائماً أثناء الصف، وببساطة اكتشف السبب. كان هؤلاء الأولاد يعملون في الليل، يبيعون الحلوى أو العلكة أو ما شابه في دور السينما وعلى الطرقات. كانوا يأتون إلى الصف وهم في غاية التعب. تبيّن لي أن نوم الطفل ليس ناجماً عن استخفافه بي أو عن كرهه بالعلم، ولم يكن للأمر علاقة بكرامتي كمعلم، بل مجرد انعكاس لمشكلة سياسية».
هذا الفهم المتمايز لما هو إنساني وعلاقته بما هو سياسي، قاد غسان في دوره السياسي ليكون مدافعاً متقدما عن صورة اللاجئين الفلسطينيين وحقهم، ومناضلاً يخوض قتالاً فعلي بكل الأدوات دفاعا عن حلم هذه الجموع بالعودة والانعتاق من نير الاستعمار والتشريد.
وفي بيئة سياسية حافلة بتيارات وطروحات شتى، كان في ممارسته السياسية يخوض اشتباكاً دائماً في مواجهة طروحات الاستسلام للواقع القائم، رافضاً تأبيد النكبة والبؤس الذي أنتجته، منادياً بالثورة بكل معانيها اجتماعياً وسياسياً كسبيل للخلاص، وفي تفاعله مع محيط عريض خارج البيئة السياسية الفلسطينية، كان مكتبه في مجلة «الهدف» قبلة للأجانب القاصدين الشرق، بحثاً عن الحقيقة والمعرفة، وللثوريين الداعين للحرية وحق تقرير المصير للشعوب من كل أنحاء العالم، أو حتى أولئك الذين جاؤوا لمسائلة الثورة الفلسطينية عن كفاحها ونضالها ومحاكمة هذا النضال بمعايير المستعمر الغربي الداعي لتسوية لا تحفظ شيئاً من حقوق اللاجئين، ليسطر معاني جديدة دفاعاً عن حق جموع اللاجئين في الكفاح من أجل عودتها، بتمثيلات تنتمي للصيغة الأدبية وتحمل تكثيفاً لفهم سياسي معمق لواقع قضية شعبه، ليرفض ما وصفه "حوار السكين مع الورق" والقاتل مع الضحية، مشدداً على الكفاح كخيار أساسي أمام الفلسطينيين لاستعادة حريتهم ومصيرهم.
إن غسان في مقاربته الإنسانية للسياسة وضع قضية حرية هذه الجموع المهجرة من ديارها كعنوان أساسي للصراع، قضية محورها الإنسان وبحثه عن إسقاط قيود الاستعباد والاستعمار، متجاوزاً بذلك الطرح التقليدي الذي حاول تصوير الصراع باعتباره صراعاً حدودياً أو اشتباكاً ناتجاً عن حساسيات دينية أو تشديدات إثنية، ليجيد الربط بين تشريد الفلسطيني من أرضه وكفاحه لاستعادة مصيره وأرضه وحريته مع كل كفاح لأجل حرية الشعوب على امتداد العالم.
خلاصة:
جاء استشهاد غسان كنفاني 1972 على يد عدوه الأول وهو المنظومة الأمنية الصهيونية الإرهابية، التي رأى فيها غسان المسؤول الأول عن تشريد شعبه ومعاناته، والتعبير الأوضح عن حجم الانحياز الاستعماري الممنهج ضد شعبه، لتأتي جنازته وتشييعه لمقبرة الشهداء في بيروت كتعبير عما مثّله غسان لجموع اللاجئين الذين احتشدوا في جنازته آلافاً مؤلفة، مؤكدين مصداقية انتمائه لهم، وإيمانهم بحقيقة هذا الانتماء وجديته وجذريته.
من مضى في نضاله لحد الموت ليعطي المصداقية لكل حرف اختطه بدمه، وتضحيته، والتزامه العميق تجاه قضيته، الذي ترجمه نضاله اليومي، فلا يمكن أن تنظر للحظة في حياة غسان إلا وتجد فيها محطة نضالية تسهم أكثر في التصاقه بشعبه والخيمة والبندقية، التي رأى فيها مفردات النضال الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال.
عاش غسان وناضل وكتب لأجل هذه الجموع، مؤمناً بحقها الإنساني في الحرية، وبوحدة مصيرها رابطاً مصيره وحياته بها، ومراهناً على قدرتها على النضال والانتصار، وتحويل الهزيمة والمعاناة واللجوء والبؤس لدوافع للفعل والتمرد لا للاستسلام والهزيمة، وأدوات للارتقاء الذاتي من السقوط في وحل الانتهازية ومسارات الهروب الفردي إلى النضال الجماعي والانتماء لما هو أكبر من الذات والعشيرة، الانتماء لفلسطين وقضيتها بكل معنى وطني وإنساني لها كرمز للنضال لأجل العدالة والحرية للشعوب من ربقة الاستعمار وأدواته.
المصادر:
- الرؤية الفكرية و المخيم الفلسطيني في روايات غسان كنفاني | FADA
- أدب المخيم عند غسان كنفاني... تحويل البؤس إلى ثورة | بوابة اللاجئين الفلسطينين
- واقع اللجوء والتشرد الفلسطيني في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس
- غسان كنفاني.. ظلّ مديد في حياة الأدب الفلسطيني - ضفة ثالثة
- بسام أبو شريف مستعيداً سيرة المثقف الرائي: غسان كنفاني مفكراً …
- مقال لغسان كنفاني.. المخيمات معسكرات اعتقال أم قواعد ثورة؟ غسان كنفاني
- 49 عاماً على استشهاد الثائر والأديب غسان كنفاني
- إسرائيل تعترف باغتيال الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني
- مخيم مار الياس يستحضر إرث غسان كنفاني باستضافة الأديب إبراهيم ...