في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، يعيش الفلسطيني مجدي ريحان، مكلوماً مبتور الساق، بين ناري فقد ساقه وابنه في إحدى المجازر "الإسرائيلية" المروعة التي ارتكبها الاحتلال خلال حرب الإبادة التي استمرت عامين على قطاع غزة وخلفت الآلاف من الأشخاص ذوي الإعاقة.
يقطن ريحان (44 عاما) في مركز للنازحين مع زوجته وأطفاله الأربعة بعد أن فقد ابنه الخامس في غارة جوية "إسرائيلية" بينما بقي هو شاهدا على أقسى لحظات حياته، حين حكم عليه بالعيش عاجزاً يكاد يعيل نفسه عقب أن كانت حياته طبيعية قبلها بعدة ساعات.
يعاني ريحان من آثار إصابته إلى جانب ندوب نفسية في ظل ظروف نزوح قاسية.
لحظات قلبت حياته رأسًا على عقب
في يوم مجزرة مخيم جباليا بمنطقة "الترنس" كان مجدي يقوم بمهامه الاعتيادية من جلب حاجيات أسرته من السوق، كما يفعل كل يوم سبت حيث لم يتخيّل للحظة أنه بعد دقائق قليلة ستسرق منه ساقه وابنه.
ويروي تلك اللحظات العصيبة قائلا: "فجأة رأينا الناس تتطاير. وجدت نفسي على الأرض غارقًا في دمي، أعجز عن الحركة، وقدميّ تنزفان. كان ابني بجانبي مصابًا، لا أستطيع الزحف نحوه، وهو يحتاجني كما أحتاجه، قال لي وهو يحتضر: سلّم على أمي وإخوتي… ومنذ تلك اللحظة، لا أنام بسبب هذا المشهد".
وتابع: القذائف لم تتوقف، والدخان كان يغطي المكان، حتى سيارات الإسعاف لم تسلم من القصف"، ثم من بين الانقاض وكم الجرحى الكبير حمله شقيقه إلى المستشفى الإندونيسي وهو بين الحياة والموت.
"ضعوه مع الموتى" أصعب ما يمكن سماعه
عند وصول مجدي المستشفى، سمع الأطباء يائسين يقولون: "هذا ميت… ضعوه جانبًا مع الوفيات، لن يتحمل أي عملية جراحية"، لكن وجود أخيه الممرض هناك أنقذ حياته، حيث اقترب منه، قبّله، طمأنه، ثم غاب عن الوعي ليبدأ الكادر الطبي عملية إنقاذه.
غاب مجدي عن الوعي لساعات طويلة، ولم يكن يعلم أن الحياة التي سيصحو إليها لن تشبه حياته القديمة في شيء وحين استفاق كانت الكارثة بانتظاره.

ويقول ريحان: "استيقظت فوجدت نفسي بساق واحدة، قبل ساعات فقط كنت أتجول في السوق أحمل مستلزمات البيت، كانت صدمة قاسية ولم أكن أعلم بعد أن ابني قد استشهد بعد".
وحين سأل عن ساقه، حاول الطاقم الطبي تهدئته، لكنه سرعان ما أدرك الحقيقة ومع فهمه لحجم خسارته الجسدية، عادت ذكرى ابنه لتسحق ما تبقى في داخله من تماسك.
وتساءل مجدي بصوت مرتجف: "كيف يمكن لإنسان أن ينسى أنه فقد جزءًا من جسده… وابنه الذي ربّاه وجهّزه للزواج؟"
من المستشفى إلى التشرد: رحلة أخرى من الألم
بعد ذلك نُقل مجدي إلى المستشفى الأوروبي في خان يونس جنوبي القطاع لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن أسرته، ولا هم كانوا يعرفون عنه شيئًا. وبعد أسبوع من الهدنة، بدأت معاناة جديدة كليًا قائلاً: إنه ظلّ أيامًا في المواصي، بين الشوارع، بلا خيمة، بلا حمام، بلا معيل، بلا شيء.
وتابع: "لم أعرف حتى كيف أقضي حاجتي… أصبحت أفعل ما تفعله الحيوانات. تمنيت الموت في كل لحظة."
إقرأ/ي أيضاً: تقارير صادمة حول أوضاع الجرحى من ذوي الإعاقة وبتر الأطراف في قطاع غزة
صدمة اخرى كانت بانتظار ريحان حين عاد لرؤية عائلته، حيث وجد أطفاله يعملون حفاة في الشوارع، ملابسهم ممزقة، والبرد ينهش أجسادهم الصغيرة بينما زوجته بدأت تعمل هي الأخرى مقابل 10 شواقل فقط في اليوم.
ويقول مجدي: "لا دخل لدينا… أبنائي يبيعون في الشوارع ليكسبوا خمسة شواقل. كنا نحتضن بعضنا من شدة البرد" مشيراً الى أن الأسرة تعتمد على التكيات الخيرية للحصول على وجبة واحدة يوميًا.
ويحاول مجدي المساعدة في قضاء حاجات المنزل فيضطر إلى السير 2 كيلومتر على عكازين من أجل قضاء حاجته في المستشفى، لأن مكان سكنه يفتقر لأبسط مقومات الحياة.

معاناة لا تنتهي: نظرة المجتمع وغياب الدعم
ويقول مجدي: إن المجتمع ينظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة وكأنهم عاجزون، وأنه يشعر بأنه فقد كرامته ومستقبله مضيفا: "كنت أنيقًا… أحب ارتداء أجمل ما لدي. واليوم أشعر أن شبابي ضاع، وأن لا مستقبل لي سوى الإعانات".
ورغم حاجة مجدي للأدوية، لا يحصل عليها. حتى أن مركز الأطراف الصناعية أخبره أنه بحاجة للسفر للعلاج في الخارج وهو أمر مستحيل بالنسبة له بسبب التكاليف والحصار,
ويختتم مجدي حديثه: "أريد طرفًا صناعيًا… هذا حق لنا كي نعود إلى الحياة والعمل. لسنا أقل من غيرنا، لدينا أحاسيس… ولنا حق في حياة كريمة".
وتؤكد وزارة الصحة أن قطاع غزة يشهد واحدة من أسوأ موجات الإعاقات في تاريخه، حيث سُجِّلت 6000 حالة بتر أطراف منذ بداية حرب الإبادة، يحتاج معظم أصحابها إلى برامج تأهيل عاجلة وطويلة المدى تشمل العلاج الطبيعي، تركيب الأطراف الاصطناعية، والدعم النفسي والاجتماعي.
وتشير البيانات إلى أن 25% من إجمالي حالات البتر هم من الأطفال، ما يعني أن آلاف الأطفال سيواجهون إعاقات دائمة في عمر مبكر جدًا، ما يشكل صدمة مجتمعية.
وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، فإن ما يقرب من 42 ألف شخص في قطاع غزة يعانون من إصابات غيّرت حياتهم بشكل دائم بسبب حرب الإبادة، حيث تشير المنظمة إلى أن واحدًا من كل أربعة مصابين هو طفل، في مؤشر واضح على أن الأطفال يتصدرون قائمة ضحايا الإصابات الخطيرة والمسببة للإعاقة.
وتصف منظمة الصحة العالمية وضع العاملين في مجال إعادة التأهيل بأنه "منهار بالكامل" فقد كان في غزة قبل الحرب نحو 1300 أخصائي علاج طبيعي و400 أخصائي علاج وظيفي، لكن الكثير منهم قُتل أو نزح، وأكد التقرير اسشهاد 42 أخصائيًا حتى أيلول/ سبتمبر 2024.
