على بُعد كيلومترات قليلة من العاصمة السورية دمشق، وعلى مقربة جغرافية رمزية من فلسطين، يقف مخيم خان الشيح شاهدًا حيًا على واحدة من أكثر تجارب اللجوء الفلسطيني تعقيدًا واستمرارية. في هذا التقرير المطوّل، يستعيد لاجئون من أبناء المخيم، من مسنين وناشطين، نشأة المخيم وتاريخه، وتحولاته الاجتماعية والإنسانية، وصولًا إلى واقعه اليوم في ظل تداعيات الحرب السورية وتراجع الخدمات.
من فلسطين إلى الجولان… ثم خان الشيح
يعود تأسيس مخيم خان الشيح إلى أوائل خمسينيات القرن الماضي، وفق ما روى الحاج إسماعيل سلامة (أبو طارق)، أحد وجهاء المخيم المسنين، لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، مستعيدًا رحلة اللجوء الأولى عقب النكبة. ويقول إن العائلات الفلسطينية خرجت بدايةً إلى لبنان، في اعتقاد ساد حينها بأن اللجوء سيكون مؤقتًا، غير أن غياب الاستقبال والظروف القاسية دفعهم إلى الانتقال نحو سوريا، وتحديدًا إلى منطقة الجولان.
في الجولان، واجه الفلسطينيون أوضاعًا شديدة الصعوبة، حيث أقيمت المخيمات في مناطق مفتوحة، وسط طقس بارد وأمطار غزيرة وظروف معيشية قاسية، ما أدى إلى انتشار الأمراض وارتفاع معدلات الوفاة بين السكان. ولاحقًا، وبتكليف من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أو بمبادرة منها، خرج عدد من وجهاء اللاجئين في أوائل الخمسينيات للبحث عن موقع بديل أكثر ملاءمة لإقامة المخيم.
ويشير المتحدث إلى أن عدة مواقع طرحت، من بينها منطقة حرّان ومناطق أخرى، قبل أن يقع الاختيار على الموقع الحالي لمخيم خان الشيح، لاعتبارات متعددة، أبرزها قربه من العاصمة دمشق بما يوفّر فرص عمل للشباب والعمّال، ووقوعه على شارع عام، وقربه من نهر الأعوج، إضافة إلى وجود مزارع تعود إلى إقطاعيين كانوا بحاجة إلى عمّال، ما شكّل عنصر جذب للعائلات اللاجئة.

خيام البداية… وشظف العيش
بدأ مخيم خان الشيح كمخيم خيام، نصبت على شكل شوارع وصفوف منظمة، وكانت كل عائلة تقيم في خيمة واحدة فقط. ويصف الحاج أبو طارق تلك المرحلة بأنها من أصعب مراحل الحياة، حيث اعتمد الأهالي بشكل شبه كامل على الإعاشة الشهرية التي تقدمها "أونروا"، والتي كانت بالكاد تكفي لسدّ الرمق، فيما اضطر كثيرون للبحث عن أي فرصة عمل ممكنة لتأمين لقمة العيش.
أصل التسمية وبدايات التعليم
وتوقف لاجئ مسن آخر، هو أبو ثائر حمد، عند أصل تسمية المخيم، موضحًا لبوابة اللاجئين الفلسطينيين أن المنطقة كانت في الأصل صحراء خالية، لا ينبت فيها سوى نبات الشوك المعروف باسم "الشيح"، ومنه جاءت تسمية خان الشيح. كما كان يوجد في أعلى المنطقة خان قديم، استخدمه التجار قديمًا كنُزل أو مكان للمبيت، وليس فندقًا بالمعنى الحديث، ومع انتشار نبات الشيح، استقر الاسم المتداول للمكان، بحسب ما أضاف.
أما التعليم، فقد بدأ بإمكانات شديدة التواضع، حسبما أكد أبو ثائر حمد، إذ لم تكن هناك مدارس في البداية، وكان شيخ يُعرف بـ"الشيخ المصري" يتولى تعليم الأطفال داخل خيمة، حيث كان يلقّنهم الحروف الأولى وأجزاء من القرآن الكريم. ولاحقًا، جرى تعيين معلم أو معلمين داخل المخيم، ومع مرور الوقت أقبل الأهالي على تعليم أبنائهم بعد افتتاح مدارس، حتى بات التعليم المسار شبه الوحيد المتاح أمام الأجيال الجديدة.

الحرب السورية… من استقبال النازحين إلى النزوح القسري
مع اندلاع الأحداث في سوريا، لم يكن مخيم خان الشيح بمنأى عن تداعيات الحرب. ويوضح الناشط محمد حمد من أبناء المخيم لبوابة اللاجئين الفلسطينيين أن المخيم شهد في بدايات الأزمة موجات نزوح من القرى المجاورة، مثل عرطوز، جديدة عرطوز، وقطنا. واستجابة لذلك، بادر أهالي المخيم، إلى جانب فرق تطوعية محلية، بتشكيل لجان وفرق إغاثية لاستيعاب النازحين، عبر إيوائهم في المدارس وتأمين الخدمات الحياتية الأساسية لهم.
غير أن المشهد سرعان ما انقلب، إذ اضطر أهالي المخيم أنفسهم لاحقًا إلى النزوح، ومع طول أمد الأزمة، هاجر عدد كبير من الشباب، وبنسبة مرتفعة، إلى أوروبا. ومع ذلك، لم يفرغ المخيم بالكامل من سكانه، إذ لم تهاجر العائلات بأكملها، بل بقي فرد أو أكثر من كل عائلة داخل المخيم. ويشير الناشط إلى أن هذا الأمر ساهم في الحد من حجم الدمار، إذ لم يتحول المخيم إلى منطقة عسكرية مفتوحة، وبقيت أجزاء واسعة منه مأهولة، بينما هاجر القسم الآخر من السكان إلى الخارج.

الخدمات… تحسّن كهربائي ومأزق المياه
في ما يتعلق بالخدمات الأساسية، يلفت الناشط والصحفي كمال عبد الله إلى أن المخيم يضم خزان مياه من المفترض أن يغذّي السكان، إلا أنه يعاني منذ سنوات من انقطاع شبه دائم للمياه دون أسباب واضحة، رغم محاولات متكررة لتأهيله، سواء عبر توفير مولدة كهربائية أو تحسين وضع البئر المغذّي للخزان. ورغم هذه الجهود، لا يزال الضخ ضعيفًا، ولا يلبي احتياجات الأهالي.
في المقابل، شهد قطاع الكهرباء تحسنًا ملحوظًا خلال الفترة الأخيرة، لا سيما من حيث عدد ساعات التغذية. أما شبكة الصرف الصحي، فهي منظمة منذ زمن، خاصة في القسم التابع لـ"أونروا"، حيث يلاحظ اهتمام واضح بالنظافة، مع عمل عمال النظافة يوميًا على جمع النفايات في ساعات الصباح، ما يجعل شوارع المخيم أنظف مقارنة بعدد من المخيمات الأخرى.

"أونروا"… دور تاريخي وضغوط سياسية
ويتوقف القيادي في الجبهة الشعبية بالمخيم أبو حسن مصلح عند دور وكالة "أونروا"، مؤكدًا أن لها دورًا إيجابيًا ومحوريًا في النهوض بالمخيم، خصوصًا على المستويات التعليمية والإغاثية والخدماتية. إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى أن الوكالة تتعرض اليوم لضغوط كبيرة تنعكس سلبًا على الفلسطينيين، ويصف ذلك بأنه شكل من أشكال التواطؤ الدولي ضد القضية الفلسطينية.
ويؤكد أبو حسن أن المخيمات الفلسطينية لم تُنشأ لإقامة دائمة أو لتحويلها إلى معسكرات، بل هي شاهد حي على حق العودة، وأن وجود الفلسطينيين في سوريا ولبنان ودول الطوق هو وجود مؤقت، مرتبط بتحرير الوطن والعودة إليه. ويشدد على ضرورة أن يعي الفلسطينيون، عبر الأجيال، أن اللجوء ليس قدرًا دائمًا، بل محطة مؤقتة في مسار العودة إلى فلسطين.
شاهد/ي التقرير
