42 عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا، حزن الفلسطينيين الدائم، ومأساتهم التي يعجز الوقت عن محوها، وكما قال محمود درويش في "مديح الظل العالي": "صبرا... هوية عصرنا إلى الأبد".
موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين يعيد نشر هذه المادة حول تسلسل الأحداث قبل ارتكاب المجزرة والهدف منها وآثارها في نفوس وذاكرة الناجين، فكيف جرت هذه المجزرة التي حولت أيلول عام 1982 إلى خريف دامي، تساقطت أجساد المدنيين الفلسطينيين فيه، معبرة عن فصل من فصول النكبة المُرّة، التي ما زال الفلسطينيون يتجرعون كؤؤسها في مخيماتهم وأماكن لجوئهم.
ما هي تفاصيل المجزرة، وما رافقها من أعمال إجرامية، مع شهادات عدد من الناجين وأهالي الضحايا.
ما قبل المجزرة..
في السادس من شهر حزيران/يونيو عام 1982، شن جيش الاحتلال "الإسرائيلي"، وبعلم من بشير الجميل، قائد ميليشا "الكتائب" اللبنانية، عملية عسكرية ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، متذرعاً بمسؤولية المنظمة عن محاولة اغتيال السفير "الإسرائيلي" لدى المملكة المتحدة "شلومو أرجوف".
بعد أيام، وتحديداً، في 13 حزيران/يونيو، قامت قوات الاحتلال وميليشا "الكتائب" بمحاصرة بيروت، واستمر ذلك إلى 28 آب/أغسطس من العام نفسه، استشهد إبّان الحصار أكثر من 30 ألف مدني، وتعرضت بيروت خلاله إلى قصف بري، بحري وجوي متواصل.
في 23 آب/أغسطس، وقبل أيام من انتهاء الحصار، عقد مجلس النواب اللبناني جلسة في المدرسة الحربية في الفياضية، قاطعها أكثر النواب المسلمين، واُنتخب على إثرها بشير الجميل، المدعوم أمريكياً و"إسرائيليا"ً، رئيساً للجمهورية.
في أواخر شهر آب/أغسطس عام 1982، انسحبت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ومعه أكثر من 14 ألف مقاتل عبر البحر من لبنان، تحت حماية دولية مكونة من 800 جندي مارينز أمريكي، و800 جندي فرنسي و400 جندي إيطالي، بموجب اتفاقات المبعوث الأمريكي إلى لبنان فيليب حبيب.
قبل ذلك، وفي في 31 تموز / يوليو عام 1982، شهدت مزرعة في النقب جنوبي فلسطين المحتلة اجتماعاً سرياً بين الجميّل ورئيس الاستخبارات العسكرية اللبنانية آنذاك، جوني عبدو، ومسؤولين لبنانيين و"إسرائيليين"، على رأسهم وزير حرب الاحتلال في ذلك الحين "آرئيل شارون" ورئيس الاستخبارات "الإسرائيلية" "يهوشع ساغي".
في ذلك الاجتماع جرت مناقشة وجود المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث قال "شارون": "إبرام اتفاق سلام بين إسرائيل والحكومة اللبنانية يستوجب معالجة مسألة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان"، ليردّ عليه الجميّل: "سنهتم بكل شيء ونخبركم قريباً".
ما جرى في الاجتماع تم تسريبه لاحقاً، بعد ثلاثين عاماً على المجزرة عام 2012، حين سمح بكشف الملاحق السرية للجنة "كاهان" التي أنشأها الاحتلال بعيد مجزرة صبرا وشاتيلا للتحقيق فيها، وكشف إحدى هذه الملاحق صحفي أمريكي يدعى، سيث أنزيسكا.
الملحق يوثق طلباً صريحاً من "ساغي" للجمّيل بالتخلص من الفلسطينيين في لبنان، "لقد حان الوقت لرجالك كي يعدّو خطّةً للتعامل مع الفلسطينيين".
ويوثق الملحق أيضاً شهادة ضابط الاستخبارات "الإسرائيلي" "إلكانا هارنوف"، والتي قال فيها: إنه سمع من الكتائب قولهم: إن "صبرا ستتحول إلى مزرعة حيوانات وشاتيلا إلى موقف للسيارات".
ولكن لم يشأ القدر بأن يترك الجميّل ينتشي بلحظة تنفيذ ما خطط له، فعند الساعة الرابعة من يوم الثلاثاء الواقع في 14 أيلول/سبتمبر 1982، زلزل انفجار ضخم مبنى حزب "الكتائب" في منطقة الأشرفية شرقي العاصمة بيروت، نجم عنه مقتل الرئيس اللبناني بشير الجميل (34 عاماً) وأكثر من 20 آخرين.
في اليوم التالي، شرعت قوات الاحتلال في عملية عسكرية هدفت إلى السيطرة على بيروت الغربية. وعقب اجتماعات إسرائيلية – قواتية (نسبة إلى "القوات اللبنانية"، الميليشيا الموحدة لليمين المسيحي التي أسسها بشير الجميل) متتالية، اتُفق على دخول الأخيرة إلى مخيم شاتيلا، وربطت ساعة الصفر بإنهاء جيش الاحتلال سيطرته على بيروت الغربية وتشديد حصار المخيم.
هكذا كانت الأجواء في لبنان قبل مجزرة صبرا وشاتيلا، أجواء غيّرت مجرى التاريخ اللبناني والفلسطيني على حد سواء، وستترك أفظع جريمة يشهدها لبنان في تاريخه المعاصر، ومأساة فلسطينية – لبنانية لن تستطيع السنوات، مهما طالت ومضت، من محوها من الذاكرة.
لماذا مخيم شاتيلا؟
كان مخيم شاتيلا خزان المقاومة الفلسطينية، وحوى مراكز عديدة لتدريب المقاتلين إضافة إلى كلية عسكرية. لكن، وعقب خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، خرج جميع المقاتلين من المخيم عقب ضمانات دولية، وتحديداً أمريكية، بعدم المس بأبناء المخيمات الفلسطينية.
فمن هذا المخيم خرجت الشهيدة، دلال المغربي، وعدد من فدائيي عملية "ميونخ" الشهيرة، ما ولّد حقداً ورغبة "إسرائيلية" بالانتقام من قاطنيه العزل، حسب ما رأى بعض المحللين السياسيين حينها .
فيما يتبين أن استهداف مخيمات الفلسطينيين في كل مكان هو استهداف لوجود اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم، والخطير جداً أن هذا الاستهداف متواصل حتى يومنا هذا وبأشكال مختلفة.
موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين يعيد نشر القصة في الذكرى الـ 42 للمجـــزرة
— بوابة اللاجئين الفلسطينيين (@refugeesps) September 16, 2024
هكذا تسلسلت الأحداث وارتكبت #مجزرة_صبرا_وشاتيلا بحق آلاف #اللاجئين_الفلسطينيين جنوب #بيروت في منتصف أيلول/ سبتمبر من عام 1982 pic.twitter.com/lW6STWyNoj
وقائع المجزرة
يوم الخميس 16 أيلول/سبتمبر 1982، شاهد أهالي مخيم شاتيلا قنابل مضيئة في السماء، أطلقها جنود الاحتلال "الإسرائيلي" لإنارة طريق القوات المقتحمة، التي تشكلت من ميليشا "الكتائب" و"جيش لبنان الجنوبي" إلى جانب عناصر الاحتلال، ووضع على رأس هذه القوات إيلي حبيقة (اغتيل في 24 كانون الثاني/يناير عام 2002).
تجمّعت قوة من 150 مسلحاً في مطار بيروت باتجاه الأوزاعي، ومن هناك إلى ثكنة "هنري شهاب" التابعة للجيش اللبناني، حيث كانت تتجمع "القوات اللبنانية"، وإلى الشمال قليلاً من الثكنة كان وزير الحرب في حكومة الاحتلال "أرئيل شارون" قد أقام مركزاً للرصد والمتابعة، يبعد نحو 200 متر من مخيم شاتيلا.
ويقول محمد سرور، أحد شهود العيان، لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين": إنه شاهد، يوم الخميس الموافق لـ 16 أيلول/سبتمبر 1982، ومن على سطح منزله، مجموعات مسلحة تتجه من المدينة الرياضية نحو المخيم.
ويكمل سرور: "تقدمت القوات التي ازداد عددها بشكل تدريجي نحو المخيم، وسط صراخ وكلمات نابية وإطلاق للنار، ولكن لم يكن هناك صوت للرصاص".
ويضيف: "خرجت من المنزل باتجاه مستشفى غزة، التي كانت نقطة تجمع للفارين، لكن أحداً لم يكن يدري ماذا يحدث داخل المخيم".
ولم يدرك سرور، بحسب شهادته، بإصابة والدته وشقيقته، التي لا تزال مشلولة إلى اليوم، إلا في اليوم التالي.
بدأت المجزرة في نحو الساعة الخامسة والنصف، وتركزت بداية في أطراف المخيم، حيث قتل المهاجمون كل ما يتحرك دون التمييز بين لبنانيين وفلسطينيين وسوريين ومصريين وسودانيين.
ووفق شهادات الناجين من المجزرة، كان المهاجمون يحطمون أبواب البيوت ويقتلون من فيها من دون أن يقولوا شيئاً، كما أنهم لم يكتفوا بالقتل، بل قاموا باغتصاب الفتيات، ومارسوا عمليات نهب وسرقة، وكانوا يقطعون معاصم النساء المقتولات لنزع الحلي من أياديهن.
حتى الرضع، لم يسلموا من القتل، بل بُقرت بطون النساء الحوامل وأخرجت الأجنة منها، وكان المجرمون يتراهنون على جنس المولود بعد قتل أي امرأة حامل.
في محيط صبرا وشاتيلا، كانت الحركة طبيعية. ومع تدفق الجرحى إلى مستشفيي غزة وعكا، باتت الأنباء عن المجزرة تتداول وتنتشر.
آمنة سريس، الممرضة في مستشفى غزة، تروي لـ "بوابة اللاجين الفلسطينيين"، الأحداث الأولى للمجزرة.
وتقول في شهادتها إنها رأت الناس تركض وتصرخ: "عمبقتلونا.. عمبقتلونا".
وتشير سريس إلى أنها سألت إذا كان هناك إمكانية لإحضار المصابين إلى المستشفى، إلا أن الفارين أكدوا استحالة ذلك بسبب عمليات القنص.
أما عن أول حالة وصلت إلى المستشفى، فتقول سريس، عن أنه كان شاباً استشهد قنصاً وهو يحاول إنقاذ امرأة مصابة، وتمكن الأهالي من سحبه من وسط الشارع بالحبال، لتكتشف بعدها سريس، أنه كان ابن عمها.
القائد العسكري السابق في مخيم شاتيلا، أبو عماد شاتيلا، يشير إلى أنه سمع بداية الأنباء عن المجزرة من قبل صحفيين متواجدين في شارع الحمرا ببيروت، ليذهب بعدها فوراً إلى المخيم مع صحفيين آسيويين.
وأكد شاتيلا أنه رأى بعينيه عند أول المخيم، بين شاتيلا وحي عرسال، الذي سمي لاحقاً بـ "شارع المجزرة"، 13 جثة بينهم جثة لفلسطينيين مقتولين.
اقتحام مستشفى عكا
كان اقتحام مستشفى عكا الحدث الأبرز صباح اليوم التالي، الجمعة 17 أيلول/سبتمبر.
على وقع نداءات القوات المهاجمة للناس بالتوجه إلى البيوت حيثما كانوا، خلا مستشفى عكا منذ الساعات الأولى من نهار الجمعة بصورة شبه نهائية من المئات الذين احتموا به، لكن الأطباء والممرضين قرروا البقاء عقب اجتماع عقدوه عند الساعة الثامنة.
وعند الساعة الحادية عشر صباحاً، حدث ما لم يكن بالحسبان، مقاتلو "الكتائب" اقتحموا المستشفى، وقتلوا الطبيبين علي عثمان أحمد وسامي الخطيب، وعذبوا الممرضات قبل قتلهن وأعدموا المسنين بلا رحمة.
خارج المستشفى، بدت الجثث المكدسة ظاهرة للعيان وواصل السكان محاولات الهرب من صبرا وشاتيلا ومن المستشفيات والمساجد، لكن جنود الاحتلال كانوا يقطعون الطريق عليهم ويجبرونهم على العودة بالقوة، حيث كان الموت بانتظارهم.
صباح اليوم التالي، كانت المجزرة لا تزال مستمرة، وكان المهاجمون ينادون سكان صبرا وشاتيلا عبر مكبرات الصوت للاستسلام حتى يسلموا من القتل، ولدى تسليم أنفسهم، كانت مجموعات من المسلحين تقوم باصطحابهم بشاحنات إلى جهات مجهولة ولم يعرف مصيرهم منذ ذلك الوقت.
أما من لم تتسع لهم الشاحنات من الرجال، فاقتيدوا إلى المدينة الرياضية حيث يتواجد جنود الاحتلال للاستجواب، وتم العثور لاحقاً على 28 جثة في المدينة الرياضية لأسرى تم ربط أيديهم إلى خلف ظهورهم قبل إطلاق النار عليهم.
وتقول ميلانة بطرس "أم حسين"، صاحبة الصورة الشهيرة أمام جثث ضحايا المجزرة، إنه وحين اختبائهم في الملجأ، جاء المهاجمون إليه وأخروجوا جميع الرجال، وأوقفوهم في صفوف، ثم ما لبثوا أن أطلقوا النار عليهم.
وبحسب بطرس، فإنها كانت أول امرأة تخرج في اليوم الثالث للمجزرة من الملجأ، لترى نحو 50 جثة أمام الملجأ، بينها جثث زوجها وابنها وابن شقيق زوجها وأبناء جيرانها.
وهكذا، خلف المجرمون نحو 3,500 ضحية من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب.
لجنة "كاهان"
في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1982، أمرت الحكومة الاحتلال المحكمة العليا بتشكيل لجنة تحقيق خاصة، وقرر رئيسها، إسحاق كاهان، أن يرأس اللجنة بنفسه.
وفي 7 شباط/فبراير 1983، أعلنت اللجنة نتائج البحث وقررت أن وزير الحرب الإسرائيلي أرئيل شارون يتحمل مسؤولية مباشرة عن المذبحة إذ تجاهل إمكانية وقوعها، ولم يسع للحيلولة دونها. كذلك انتقدت اللجنة رئيس الوزراء مناحيم بيغن، وزير الخارجية إسحاق شامير، رئيس أركان الجيش رفائيل إيتان وقادة المخابرات، قائلةً إنهم "لم يقوموا بما يكفي للحيلولة دون المذبحة أو لإيقافها حينما بدأت".
استقال شارون تحت الضغوط، وعيّن بعدها وزيرًا بلا حقيبة، لكنه، بعد ذلك شغل تولى رئاسة الوزراء في عام 2001.
مجرمون بلا عقاب..
في عام 2001، رفع عدد من عائلات الضحايا، وبينها عائلة سرور، دعوى على شارون في بلجيكا، التي كان قانونها يجيز محاكمة الرؤساء. وسلكت الدعوى طريقها القانوني بعدما أعطى القضاء البلجيكي الضوء الأخضر للشروع في التحقيق القانوني بصدد مسؤولية شارون عنها.
وكان البرلمان البلجيكي قد صادق على قانون محاكمة مجرمي الحرب،عام 1993، وتم بموجبه فتح ملفات جنائية في المحاكم البلجيكية ضد شارون، على خلفية جرائم الحرب التي ارتكبها في مخيمي صبرا وشاتيلا.
وقال سرور إنه وفي اليوم المحدد للمحاكمة، طلب القاضي المكلف إجازة فتم تأجيل القضية، وخلال هذا التأجيل، صدر قرار بلجيكي جديد بمنع محاكمة الرؤساء، حيث عدّل القانون البلجيكي، في 29 تموز/يوليو عام 2003، وذلك عقب ضغوط أمريكية.
وطالب سرور عبر "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" العدالة اللبنانية بفتح ملف مجزرة صبرا وشاتيلا من جديد وإعادة محاكمة القتلة الذين يسرحون ويمرحون.
تبقى مجزرة صبرا وشاتيلا، إحدى أمرّ الفظاع المرتكبة ضد الفلسطينيين، خصوصاً وأن المفقودين، الذين لا يعرف عددهم، لا يزال مصيرهم مجهولاً، بينما، ينعم المجرمون بالحرية في غياب واضح لعدالة مزعومة.